جملة اعتراضية طويلة
في كثير من مجتمعاتنا - لم أقلْ: كلها - يصبح الشعور العام تجاه الفرد المختلف ليس الحسد فقط! بل يتعدى ذلك إلى محاولات تدميره. تشويه أي لهجة تعاطف معه. مما يعني: السعي لتحطيم هذا (الصنم)!. ولا تقف هذه المحاولات عند معسكر معيّن، بل وتسري كالنار في الهشيم فتطال الذين لا يُعتبر موقفهم ذا قيمة!
أولئك المعتدلون. وذلك بسبب مواقف هذا الفرد في سلوكه أو في أفكاره أيضا. تلك المواقف ضدّ الآخر تساهم في تدمير الكثير من جسور الثقة بيننا. بل وتدمّر إمكانية التواصل التي ربما تنشأ بيننا عبر الحوار والتعاطي مع بعضنا بحيث نصل إلى مفاتيح مناسبة وحلول مناسبة.
إن مشكلتنا هي فقدان الرغبة في الحوار!. وهي أسوأ من فقدان الرغبة في التعايش!. وهنالك ما هو أسوأ من كل ذلك ألا وهي محاولات التكميم والإقصاء. وهي من الأسلحة التي صارت موضة قديمة. وقد طوّرت المؤسسات الاستخباراتية أسلحة فتاكة بحيث تصبح محرّمة في القتال مع العدو وحلالا بلالا على تلك الأجهزة التي انشغلت بتطوير حالتها الجاسوسية؛ فهي تجيئك من خلال الحاسب ومن خلال الجوال ومن خلال الشبكة العالمية للإنترنت.
الشخص (المختلف) هو ذلك الإنسان الذي قال عنه المفكر البريطاني (كولن ويلسون) إنه (ذلك الشخص الذي يعي أكثر مما يجب) وبعبارة مشابهة يصفه بذلك الإنسان الذي (يعرف) أكثر مما ينبغي أن يعرف!. إن الاختلاف في ذهنية المجتمع هو شيء شبيه بالحرب. وأشبه ما يكون بـ (الحرب الباردة) التي كانت تدور رحاها بين المعسكرين الرأسمالي والآخر الإشتراكي. إن ويلسون بتعريفه الذي لم يسبقه أحد في صياغته وهو في كتبه ورواياته يصف المختلف بـ (اللامنتمي) وهو تعبير من ابتكاراته عن مجموعة من الكتاب والشعراء ويلفظ في النقد المعاصر بـ (OUTSIDERS) أي الذي خارج الخطوط والمتمرد على التقاليد الأدبية والاجتماعية مع كونه (ولا بدّ) مبدعا هاما في خمسينيات القرن الماضي (العشرين). وكان ممن تناولهم ويلسون الشاعر الكبير (رمبو) وتناوله مطولا ربما لكون كتابات هذا المبدع تشي بحياته التي تستعصي على الانسجام الاجتماعي. الضروريّ جدا بالنسبة للمبدعين وإن كان هذا الشرط ينتفي مع بعض الذين هم آوت سايدرز. كون إبداع من يسميهم ويلسون باللامنتمين) يتخطى حدود الجغرافيا والتاريخ ويكون ملهما للأجيال التي تليه.
ويمكننا تعميم هذه الصفة - اللا منتمي - على شعراء عرب كبار كابن الرومي الذي بلغ من سوداويته أنه إذا أراد الخروج لحاجة ملحة يطلّ أولا من ثقب الباب فإن رأى أعمى، أو أعور، أو أبكم أو أبرص، ألغى مشروع الخروج وظل حبيس البيت. وهذه حال متقدمة من (البارانويا). ويقال إنه مرة كان جالسا مع بعض صحبه وقال له أحدهم (أتعلم ياابن الرومي أنك بلغت الستين الآن) فقهقه وقال (ليتني كنت أعلم أنني سأبلغ الستين! كنت لا أوفّر دورقا أو طاسا) أو كما قال!. ربما تكون هموم ابن الرومي متعلقة بكونه أدرك مبكرا أنه (غريب) أو - OUTSIDER - فالشعر يؤدي إلى حال الاغتراب. والمختلف هو إنسان مغترب، وليست غربته هي غربة المكان ولا غربة الزمان إنها غربة (الوجود).
يقول - يوسف صايغ :
(أبعـْد الذي كان؟ يوحَشُ كالذئب ِ وجهي؟
وأفـْرَد مغتربا بين أهلي؟)
لقد كانت هذه الجملة الاعتراضية طويلة جدا فأعتذر من القارىء الكريم لأن الكتابة هي جملة اعتراضية، أو عددٌ من الجمل الإعتراضية. ويمكننا تلخيص أزمة الإنسان المختلف بالقول إنه إنسان (يرى رؤى!). وليست كل الرؤى مزارا مقدسا. وهنالك بعض الذين يقصون عليك أحلامهم فلا تجد بين تفاصيلها ما يثير الغرابة أو يحتاج إلى تفكيك لفهمه. ولا تشعر حيالها بأنها تجلب التشاؤم ولا التفاؤل وهي من قبيل قول الرسول عليه السلام (أضغاث أحلام) أي مجموعة مرئيات متراكمة يريد الحلم بسلطته الكامنة في النوم أن يلفت لا وعيه إليها.
إن الله عندما خلق البشر والشجر والحيوانات قام بذلك وجعل من كلٍّ زوجين ولنر ما دعاها الله بآيته (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) وهو في سياق الآية الكريمة يبيّن أن من معجزاته أنه خلق الذكر والأنثى وذلك ليكونا سكنا لبعضهما، وأنه تعالى وضع في قلبيهما المودة والحب والتراحم وكل هذه جدليات المعرفة التي فطر خلقه عليها وأمرهم بتدبرها.
إن الإنسان المعاصر هو الآن موضع ضغوط STRESS من كافة الجهات وهذا من تدبير الله ومن قبيل الجدل الإنساني. فما نشهده من اضطرابات وما يهيمن على الفضاء العربي والعالمي من احتجاجات هو في الأساس: صراع بين القيم. ثمة من يستنكرون حلول قيم محل أخرى ناسين أن الزمن هو متغير أكبر! وأنه لا بدّ من تغيير الباطل، وأنه لا بدّ من إحلال الحق؛ ليكون مرجعا أعلى حال الخصومات والشحن الذي يحرك الجماعات ويدفع بالجموع إلى نسيان حرصهم على أمنهم الشخصي ليتحول هذا الحرص إلى قنابل حارقة (مولوتوف) وعصيان مدني واعتصامات.
إن حياتنا هي قصة طويلة. تبدأ من صرختنا الأولى وتستمر ونحن معها تدور حينا على نفسها - وهذا يجلب الغثيان والأسئلة - وتدور حينا بسرعة لا يتحملها كثيرون وتجدهم نتيجة ذلك أسرى للمصحات النفسية والمشعوذين.
(مضى زمنٌ كانت الأرض فيه تدور على نفسها، أتى زمن الشعراء الذين إذا دارت الأرض ماتوا، أو اجترحوا الرفض كيْ يوقفوها..) ويمضي - سعدي يوسف - في هجاء الزمن العربي.
(مضى زمنٌ كانت المدنُ العربية فيه ثغوراً، أتى زمن المدن المصرفية).
alhomaidjarallah@gmail.comحائل