لم يعاني جنس بشري من ويلات الرجل الأبيض كما عانى الأفارقة، ورغم أن الأفارقة لطيبتهم وانعدام الغطرسة من ثقافتهم، عانوا من كثير من الأجناس الأخرى أيضاً، إلا أن الرجل الأبيض عاملهم بشكل استثنائي على أنهم غير بشر أو في أحسن الأحوال أنصاف بشر.
ونقل البيض طيلة قرنين من الزمن مئات ملايين الأفارقة من أفريقيا إلى ما كان يسمى بالقارات الحديثة آنذاك، الأمريكيتين والكاريبي، في سفن مزدحمة جداً لا تتوافر فيها أي مقومات الحياة، وكانت النساء تحيض، وتلد في غرف السفن المكتظة حيث لا يوجد نور ولا نوافذ. وكان من يموت من جراء الاختناق أو المرض يلقى به طعاماً للحيتان في المحيطات أكثر ممن يصل لليابسة. ويقال إنه مات ما يقارب خمسة وعشرين مليوناً في عملية نقل العبيد فقط، وليس في قتلهم أثناء معاملتهم في مزارع القطن والذرة. ورغم ذلك ما زال البيض يرفضون تقديم اعتذار لهم بينما هم يعتذرون بمناسبة وغير مناسبة لليهود للمذابح التي قامت بها النازية في حقهم.
ويقال إن القساوسة المسيحيين بعد أن يفرغوا من حفلات وعظ زوار الكنائس بالاقتداء بالمسيح في محبته للسلام والرأفة والرحمة بمن حوله، وبعد شكر الرب على نعمه، يشرعون في بيع العبيد في مزادات علنية خارج الكنائس مباشرة، لأنهم كانوا ينظرون لهم على أن هذا لا يخالف تعاليم المسيحية السمحاء؛ لأن الزنوج أنصاف بشر فقط، وليس لديهم إحساس بشري كامل. وبعد ظهور الانتخابات في بريطانيا كان العم يصوت عن عبيده، وفي أمريكا كان الملوَّن يحسب بربع صوت، ثم نصف صوت، ولذلك إذا وصف لك شخص أسود شخصاً أبيض فهو يتكلم من تجربة ومعاناة، وتجربة تاريخية لا تنسى، وعليك أن تأخذ كلامه على محمل الجد.
استخدم الأمريكيون من أصل أفريقي، وهم أصحاب تاريخ طويل وتجربة غنية في التعامل مع عنصرية الرجل الأبيض. وكانوا يطلقون على الزنجي المحظي لقب «زنجي البيت»، أي من يستخدمه الأبيض في البيت لمراقبة بقية العبيد، ويستخدمون عبارة «أقنعة بيضاء لوجوه سوداء» لنعت بعض الأفارقة ذوي البشرة السوداء الذين ينسلخون عن بني جلدتهم ويخونون قضاياهم نتيجة لاعتقاد خاطئ بأنهم جزء من الطبقة الوسطى البيضاء. فهم يبالغون في تصرفهم كالبيض، ويحسون في داخلهم أنهم بيض ببشرة سوداء، ولذا فبعض الأفارقة الأمريكيين من ذوي الأقنعة البيضاء، الذين يرددون شعارات البيض العنصرية عن السود مثل اتهامهم بالعنف أو الكسل أو انعدام الطموح وغير ذلك من الأطروحات العنصرية، يرون في أنفسهم مثالاً يحتذى للسود المغلوبين على أمرهم، علماً بأن المؤسسة البيضاء تتلاعب بهم من حيث لا يشعرون للقيام بهذا الدور. ولذا، يرى الناشطون في مكافحة التمييز العنصري أن هذه الفئة أشد خطراً من العنصريين البيض. وعلى عكس ذلك، يعتبرهم البيض أفضل وأقدر الفئات على إضفاء مصداقية على وجهة النظر البيضاء مهما كانت متطرفة، لأن أحداً لا يستطيع اتهامهم بالعنصرية وهم يحترمون هذه الفئة القليلة من ذوي البشرة السوداء.
كما أن مؤسسات الإعلام البيضاء توظفهم كثيراً في برامج الأخبار والبرامج السياسية الدولية لأنهم يضفون عليها مصداقية ملونة. وتبرزهم أحيانا في وظائف معينة حسب الظروف التاريخية كمندوبين في الخارجية أو المنظمات الدولية، فلا أحد، على سبيل المثال، يستطيع أن تتهم كولن باول أو كونداليزا رايس بالعنصرية بنفس الدرجة من المصداقية التي يمكن اتهام رامزفيلد أو ديك تشيني بها. وكان عنصريو جنوبي أفريقيا يوظفون الرئيس بوتوليزي، زعيم الزولو، وزعماء سود آخرين في الدعاية المضادة للمؤتمر الوطني الأفريقي الذي يرأسه نيلسون مانديلا. والفئات المعارضة لكثير من أنظمة العالم الثالث، التي يحميها الغرب ويغذيها، تلعب الدور نفسه، بصرف النظر عن كونها مشروعة أم لا. مثل هؤلاء كل من يخون بلده أو أمته، ويتآمر مع الأجنبي عليها، تحت أي ظرف وأي سبب وعلى أي مستوى، سواء كان كذلك تأمراً عسكرياً، أو إعلامياً، أو سياسياً، أو اقتصاديا. فالذي يمكِّن الأجنبي من اقتصاد بلاده بالتآمر أو التستر، يدخل ضمن هذه الفئة أيضاً.
و نشهد، وللأسف الكثير من المسلمين والعرب ممن يمكن اعتبارهم من «ذوي الوجوه السمراء والأقنعة البيضاء»، بعضهم يشعر أنه خواجة بمظهر خارجي عربي، يتصرف كالخواجة، يقوم بكل الأدوار الاجتماعية البهلوانية الممكنة ليحسس الخواجات أنه خواجة مثلهم. يطرب كثيراً عندما يقول له أحدهم: أنت مختلف، أنت مختلف عن العرب، أو عن المسلمين. وإذا كان اسمه جمعان سمى نفسه «جيمي»، أو محمد سمى نفسه «مو»، أو مشعل «ميشيل» وهلم جرا. وعندما يسافر الخواجة العربي يكثر السؤال عن الأماكن التي ليس بها عرب، وعندما يصادف بني جلدته يصد عنهم؛ لأنه لا بد أن يحافظ عن اختلافه معهم بمسافة عنهم. وعندما يعود لمجتمعه يتظاهر بأنه مجتمع متخلف فيهرب عن حاضره للماضي محاولاً العيش عيشة تراثية متطرفة موغلة في القدم، لأنه ينظر لتراث أهله بعين الخواجة السائح، بعين الأجنبي الذي يبحث عن كل ما هو قديم وبدائي وأصلي، لأنه لا ثقافة مجتمعية حديثة تساوي الالتفاتة البيضاء، وكذلك يقلده الخواجة العربي.
المنسلخ عنصرياً وثقافيا يبالغ في احترام القوم الذين يحاول لا شعوريا الانتماء لهم حتى ولو كانوا تافهين، ويتملص من قومه حتى ولو كانوا نبلاء ومتعلمين. يخرج عن طريقه ليصافح بواب أو جرسون أبيض مبديا لطفاً مبالغاً فيه، ويخاطب أبناء جلدته بتعالي وغطرسة «قرنواوسطيين» ولو كانوا أناسا محترمين. يعتقد أنه «سوبرعربي» ارتقى من جنسه المتواضع لمرتبة الجنس الأرقى الذي لا يفهم عن ثقافته إلا القشور.
زيجاته تكون من الخارج وفي عوالم بيضاء، مسكنه ومخدعه أبيض، مأكله ومشربه أبيضان، عاطفته بيضاء. لا يهمه أن يصرف من المال بشكل باذخ يثير الشفقة والضحك في سياق انسلاخي، وفي مناسبات تؤكد أنه مختلف.
داء الإنسلاب الثقافي يصيب أكثر ما يصيب من تكون ثقافتهم ضحلة من حديثي المراكز أو النعمة. وهو منتشر في دول العالم الثالث بكثرة، وقد يرتبط بما يسمى بمتلازمة الغطرسة Hubris Syndrom، وقد كان واضحاً على بوكاسا، والقذافي، وماركوس وزوجته. وقد صرح هنري كينسجر أن السادات كان مصابا بهذا الداء، ربما نتيجة لسمار بشرته وزواجه من سيدة بيضاء سبق ورفضته أمها في البداية، وكان يكثر من كلمات صديقي، وعزيزي، وزميلي كلما ذكر اسم زعيم غربي، وكان يحرص على الظهور دائما بغليون في فمه، وكان يربي كلابا، ويدمن مشاهدة الأفلام الأمريكية، ويحرص على جميع المظاهر البيضاء. وعكسه أناس مثل نيلسون منديلا، الذي كان شاعراً بالإنجليزية ويحرص دائما على الظهور بزي أفريقي، أو «هوشي منه» الزعيم الفيتنامي الذي تخرج من أرقى جامعات فرنسا، وأرعب هنري كينسجر ببساطته في المفاوضات بتمسكه بالزي الفيتنامي الفلاحي البسيط، وعندما أخذ تفاحة أمام الجميع في عشاء رسمي ووضعها في جيبه ليأكلها فيما بعد. ولا ننسى المهاتما غاندي الزعيم والمحامي الكبير بزيه البسيط ورفقته الدائمة لعنزته. ويرتعب الغربيون دائماً من الذين لا يأبهون لقشور ثقافتهم المظهرية، المثقفون فعلاً الذي كلما ارتقوا في مراكزهم وازدادوا نفوذا ازدادوا انحناءاً وتواضعا لشعوبهم.
الأفارقة الأمريكيون فهموا الانسلاب العرقي والانسلاخ الثقافي عين الفهم، وتمرسوا في التعامل معه بشكل أثار إعجاب البيض أنفسهم وجعلهم يتعاطفون معه، وعندما عاد الموسيقيون، والأدباء، والكتاب الأفارقة لجذور ثقافتهم تقبلوها كما هي، ولما يجتزئوا الغرائبي والبدائي منها، الجزء الذي يعجب الرجل الأبيض، بل تجسدوها كما هي وطوروها، فظهر الأدب الأفرو- أمريكي، وموسيقى الجاز والبلوز التي كان اعتبرها ممثلو الثقافة العليا، الثقافة البيضاء، في البداية ثقافة منحطة لتسود هي فيما بعد كثقافة الطبقة الراقية.
الأمريكيون الأفارقة يحتقرون من يتلبس منهم طباع البيض ويضع على وجهه قناع أبيض، ويسخرون منهم ويضحكون عليهم.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود