أعتذر عن استعمال المفردة الأجنبية في العنوان، لكنني لا أجد في العربية مقابلا لها يؤدي نفس المعنى بالضبط. كلمة «تابو» لا تعني المحرم أو الممنوع أو المقدس، لكنها قد تحمل كل هذه المعاني مجتمعة وما هو أكثر. هذه المفردة في أصولها الأولى ليست غربية ولا عربية، لا هندية ولا صينية أو فارسية، بل مأخوذة كما هي من إحدى اللغات البدائية في جزر البولينيزيا المتناثرة في أصقاع المحيط الهادئ اللامتناهية وصارت تستعمل كمفردة عالمية في كل اللغات الحية.
استعمالاتها العلمية الأولى تعود إلى علم النفس، حين وضعت كمصطلح علمي يحمل معنى «المستثنى والمستبعد من إمكانية الاقتراب». السبب في اختيارها كان عجز المدارس الغربية الرائدة في علوم النفس عن العثور بين مفرداتها على ما يحمل كل هذه المعاني بنفس الدقة وفي مفردة واحدة. عند أصحاب الأصول الأولى لهذه الكلمة كان الأجداد وأرواح الغابرين «تابو»، لا يتحدثون عنهم ولا يستحضرون أفعالهم، وإنما يكتفون بإبقائهم في الذاكرة حاضرين دائما، تقدم لهم القرابين والترانيم والرقصات، وكفى.
عدم الاقتراب من الغابرين تحليليا، مع إبقائهم في الذاكرة حاضرين تمثلاً، جعل تلك القبائل البدائية تنتج عبر آلاف السنين نسخا متكررة طبق الأصل من التعبير عن الحياة والتعامل معها. بالنسبة لتلك القبائل أصبحت الاستمرارية النمطية مضمونة بسبب إرث التابو، وما زالت تعيش تقريبا على نفس الأنماط القديمة رغم احتكاكها بالمستكشفين والغزاة والمبشرين الغربيين. لم تضف جديداً سوى أنها استثمرت تراثها القديم للترويج السياحي (فولكلور) يتسلى بها السياح الغربيون.
على الأرجح لم يكن «القديم» الذي خلفه الغابرون في المجتمع البولينيزي يمنع التجديد والتغيير، لكن اللاحقين توسعوا ونمذجوا مفهوم التابو وعمموه على طريقة الحياة أيضا، وليس على الأشخاص فقط.
معضلة الخلط بين احترام القديم والاعتزاز به وبين الجمود النمطي على نفس المفاهيم والمستويات الفكرية القديمة، هذه المعضلة تمر بها كل الحضارات البشرية لفترات تقصر أو تطول. كلما طالت الفترات تعطل التفكير وكل ما قصرت تفتحت آفاق جديدة للتعامل مع شروط الحياة في اتجاه المستقبل وليس نحو الخلف.
هذا الوضع يشبه كثيرا ما يحدث في مجتمعاتنا العربية والتصاقها بالقديم دون مبرر عقلاني، لا موروث ولا مكتسب، لكنها عقلية التابو. المجتمعات التي تحذف المنطق والفلسفة من المناهج التعليمية وترفض تفكيك الظواهر الطبيعية إلى أسبابها التي أودعها الله فيها، هذه المجتمعات (ونحن منها) تستمر فكريا وإبداعيا في مراحلها البدائية، حتى ولو كانت صوريا تنتمي إلى العصور الحديثة.
لذلك ما أن تزول القشرة الخارجية عن إنسان بهذه المواصفات تعرض لأي تحدٍ أو استفزاز ما، حتى تظهر الأنماط الأولى القائمة على التعصب للقبيلة والنسب والمذهب على حساب العقل المجرد من الأهواء.
هذا بالضبط ما يحصل في العراق وسوريا ومصر وليبيا كأمثلة حية ومدمرة كان من الواجب أن تجعل الإنسان يبحث في العقل وتحريره من حبسه الأزلي. إنها عقلية التابو التي تحبس النشاط العقلي النقدي في قمقم البدايات الأولى للحياة.
حتى الأديان السماوية لم تستطع كسر القمقم وتحرير العقل البشري بالكامل إلا في بعض المناطق المحدودة والمحظوظة، ولكن العالم العربي ليس منها، على الأقل في الوقت الحاضر.