لا تَخَفْ
لا تربية في أحضان خوف.
لا تعليم في ساحة خوف.
فلا يجتمع أمل مع ألم.
والمحاصَر يشغله فك الحصار عن فتح الحصون.
وما كان القط يوماً أسداً إلا في أوهام الفئران.
والعبد لا يحتاج إلى تربية على العبودية إنما يكفيه فقط أن تسلبه حريته.
إنه الغول الحقيقي الذي يأكل أكباد الأطفال ويحاصر قلوبهم ويعطل كل أجهزة الاستقبال لديهم.
نبتت هذه البنت في بستان الأمن والعدل، واستقام عودها بلا خوف، وصَفت نفسها بلا ظلم، سليمٌ قلبها من صراعات الرضا والسخط، وصافٍ ذهنها من مُشتتات الأماني الفارغة وأحلام اليقظة، فأتت كلماتها تلقائية بسيطة واعية.
لم يمنعها خوف من التعبير عن رأيها، ولم تدفعها جرأة إلى تجاوز مقام الأب، بل إنها تستميله أن يقبل (يا أبتي)، ولم يدفعها تردد إلى أن تتكلم خلسة أو تُسر إلى أبيها؛ لأنه بيت تربى على الوضوح والصدق، فالقبول علانية والرفض علانية بلا خشية من ردود الأفعال، فالنفوس السوية لا تنطوي على مبالغات عاطفية تحجب الحق.
إنها أسرة صغيرة تمتلك أرقى درجات الترابط والتواصل، قالت إحداهما في تودد: (يا أبتي) وفي أدب (استأجره) وفي إقناع (إن خير من استأجرت القوي الأمين).
لقد وجدت الريحانة فرصتها لتصون شذاها ورحيقها عن مكابدة الأشواك كل يوم وإطفاء بريق لونها تحت الشمس الفاضحة والغبار، وجدت فرصتها لإغلاق الباب المفتوح نحو غروب الشمس؛ لتنعم دوماً بشروق لا غروب له، تخشى الذوبان مع الغروب؛ فمع الغروب تُظلم الدُّروب، ولا فرق بين الموت بلدغة عقرب أو نفثة ثعبان، فمع الغروب ليست الأرواح في أمان، قد تسمُن الأبدان في الاغتراب، لكنها بلا روح سراب.
بلا خوف اقتنصت الريحانة فرصتها بلا تردد، والتجربة خير برهان، فرمت بسهمها تصيب كبدين في رمية واحدة، وهي في حقيقة الأمر تريح كل الأكباد، حتى أكباد القطيع التي كانت تتقطع عطشاً لتحيا العفة رِيَّا.
ليست المرأة كأساً كلما فرغ ملأناه.
ليست المرأة خيطاً كلما انقطع وصلناه.
ليست ظلاً إذا انحسر هجرناه.
ليست بئراً إذا جف ردمناه.
ليست المرأة ذنباً إذا لاح لعنّاه.
إن الريحانة قلب بالرحمة ملكناه.
الريحانة تضع كفايات العمال والموظفين (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، والأب يلتقط الخيط، ويجعله كفايات للمتزوجين، قال: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) وبعض التلميح عند ذوي الحجى تصريح.
فبين (قالت) و(قال) عالم من الفهم العميق والتواصل الدقيق بين الأب وابنته.
هل لاحظت معي أن البنت طلبت ما أرادت أمام أبيها وأمام موسى وأمام أختها؟
هل لاحظت أن الأب طلب من موسى أن يختار إحدى ابنتيه (هاتين) الحاضرتين معهما في الجلسة نفسها؟
هل لاحظت أن الأب لم يخف أن تغضب إحداهما لأنها لم يقع عليها الاختيار؟
أقسم.. إن هذا البيت لعجيب.. بيت حاز كل معاني القوة.. قوي في حيائه.. قوي في صراحته ووضوحه.. قوي في تفاهمه وتواصله.. قوي في أُبُوته وبُنُوته.. شيخ كبير لكنه حقاً كبير.. بيت بلا أسرار وبلا عُقد.. ليست البنت قابعة خلف باب عالمها الخاص المليء بالأسرار، وليس الأب في غيبوبة الحياة يراها ولا يراها، ثم إذا انكسر الباب أقبل بعضهم على بعض يتلاومون.