في حياة الجاهلي، الناقة الملاذ الآمن؛ فمنها يتحقق له الطعام والسفر والركوب والترحل بجانب حلّه وإقامته، وهي في معلّقة “طرفة بن العبد” مادة الحرمان عندما حال أقاربه بينه وبين أن يرث من أبيه شيئاً من النوق التي بها تتيسر أسبابا الحياة له، ويتضح حضور الموت في ألفاظ تكررت على مدار معلقة طرفة كـ لفظ “الموت” و”المنية” و”القبر” و”الحتف” و”التراب”
حيث يدل ذلك على معاناة الشاعر منه. وبالتالي فإن الخوف والنفور من الموت قاد الإنسان إلى تكوين فلسفة متشائمة عنه، عن الموت، في حين لا تفكر الحيوانات في الموت تفكير الإنسان رغبة في الخلود المستحيل.
يحدث أن لا يفكر الإنسان في الموت ولا يدرك رهبته وهيبته إلا إذا فجعه موت من لم يتصور غيابه عنه أو فقد له أو يصعب عليه استيعاب حياة تخلو منه. فيبدأ في التعرف على الموت وينتبه إلى أخبار من يموتون وإلى أسباب موتهم وتسترجع ذاكرته الحوادث التي مضت ويتمعن فيها!.
الحياة فرصة ينهيها الموت الذي شغل العلماء وقادهم إلى “علم دراسة الموت والاحتضار” وتطور حتى أصبح منهجاً دراسياً في الجامعات الغربية، وأهم العلوم والتخصصات التي اهتمت بالموت الطب والتمريض، والصحة العامة، والعلوم الاجتماعية والسلوكية، وعلى الأخص علم النفس، وعلم الاجتماع، والقانون، بالإضافة إلى الدين والفلسفة عندما شغلهم الموت الفسيولوجي والموت السيكولوجي أو ما يطلق عليه الموت النفسي بسبب الكره الذي ينمو داخل الفرد فيخرج إلى خارجه يؤذيه ويؤذي من يحتك به أو يقترب منه.
مما توصل إليه علماء النفس في شأن الموت أن كثيرين ممن يفكرون في الموت ويرهبونه تتبدل تصرفاتهم وعاداتهم الغذائية ويتمنون أكل البسكويت الحلو، وقال الباحث ديرك من جامعة روتردام: “عندما تبدأ بالتسوق أو تناول الطعام فإن ذلك يساعدك على نسيان نفسك، فالذين لا ثقة لهم بأنفسهم عندما يشاهدون صورا عن الموتى خلال نشرات الأخبار يأكلون ويتسوقون أكثر بعد ذلك”.
قرأت لعبد السلام المساوي الشاعر والكاتب المغربي ورئيس المركز الجهوي للتوثيق والتنشيط والإنتاج في أكاديمية فاس مقالاً عن الموت بين الأسطورة والفلسفة أشار فيه إلى أساطير من سبقونا حيال الموت وحيال التعامل معه حيث ذكره أنه “في اعتقاد “الهورن” من الهنود الحمر أن دفن الأطفال قرب الطرقات من شأنه أن يسهل دخول أرواحهم في النساء العابرات، فيولدون مرة ثانية.
كما أن بعض الزنوج في غرب إفريقيا يلقون بأجساد الأطفال بين الشجيرات الكثيفة لكي تتمكن أرواحهم من اختيار أمهات جديدات من النساء المارات بهم. أما الرومان والإغريق فقد آمنوا بأن أرواح الموتى تتقمص في الأفاعي، لذلك عاملوا الثعابين برفق، فكانت تؤوى وتطعم بأعداد غفيرة. ومن الممكن أن الصورة الشائعة في الفن الإغريقي والتي تمثل امرأة تسقي ثعبانا من صحن، مأخوذة عن عادة إطعام أرواح الموتى الراحلين، إلا أن انبعاث أجساد الأطفال بهذا التصور يمر بطور التكوين الأول - المرحلة النطفية والجنينية - قبل أن تخرج إلى الوجود أجسادا حقيقية. ولربما كان إصرار بعض الأسر على منح أسماء موتاها للمولودين الجدد تأكيدا لبقاء عقيدة التقمص أو التناسخ عندهم وامتزاجها بتقاليدهم.
إن استعادة الاسم - بهذا الإصرار - بعث لجسد المسمى وتخليد له، وإن كان تطور الفكر البشري يفسر هذه الظاهرة بالتيمن بذكرى الفقيد، أو تكريمه بحفظ اسمه من الضياع والتلف. وهذه الممارسة ما تزال شائعة بين عدة أجناس ومن بينهم العرب” هي أساطير لا تتفق مع استيعاب بعض العقول مثل استيعابهم للموت عندما حرص العلماء على فلسفته ربما في فلسفته يتحقق الأمن منه فنستبعد الخوف والرهبة والقلق من الموت. اعتنت الفلسفة اليونانية بالموت وتعلّمه أو تدريب النفس على تقبله والاستعداد له ورأينا ذلك في موقف سقراط من لحظة إعدامه وإعلانه أن الفلاسفة الحقيقيين يجعلون من الموت مهنة لهم. كما وأن تصورات أفلاطون عن الروح تطرد عن الذهن قلق الموت وتربطه بالذي بعد الموت وتخيّل أو تصوّر الحياة فيه انتصاراً على الموت الذي تكمن فداحته في العلاقة بالآخر عندما يكفّ عنا ما كان يتفضل به علينا فتبقى علاقتنا بالذي مضى معه أو بروح تركها بين يدينا ومات لافتاً نظرنا إلى مقولة أبيقور “إذا كنا، لا يكون الموت، وإذا كان الموت لا نكون”. أو إلى رؤية جان بول سارتر أنه لا ينبغي التفكير في الموت لأننا لا يمكن أن ندخله ضمن تجربتنا الذاتية حتى لا نضخّم شبح الخوف والرهبة منه وبالتالي نصاب بآفة الفقد أو الحرمان من الحب والاحتواء أو الحرمان من العطاء ومواصلة الإبداع فنؤسس للهروب منه لكنه سبحانه وتعالى قال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
bela.tardd@gmail.com -- -- p.o.Box: 10919 - dammam31443Twitter: @HudALMoajil