ـ 2 ـ
في الأسبوع الماضي ذكرت أن من أسباب تركيزي الحديث على سوريا منذ أن هَبَّت أكثرية الشعب السوري مطالبة بالحُرِّية ما لتلك البلاد وأهلها من مكانة في نفسي.
ومن تلك الأسباب إدراكي - منذ بداية تلك الهَبَّة - أن النظام السوري المُتسلِّط مدعوم دعماً غير محدود من النظام الإيراني. وهذا النظام ما زال يعطي دليلاً وراء دليل على أنه قَويٌّ إرادةً ومكراً ودهاء وتَسلحُّاً. ولقد برهن على كل ذلك في عِدَّة مواقف بينها صموده ومهارته في تعامله مع الغرب في الشأن النووي، وبينها مقدرته على فرض إرادته في مؤتمر دول العالم الإسلامي الذي عُقِد أخيراً في القاهرة بحيث خضعت تلك الدول لتلك الإرادة، فلم تُضمِّن بيانها إدانة لجرائم النظام السوري، وإن كنت ممن يرون أن مؤتمرات تلك الدول ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع.
ومن أسباب تركيزي الحديث على سوريا، أيضاً، إبداء ما أراه من أن أخطر المواقف التي يمكن أن تُوثِّر في مجريات الأحداث هناك؛ سلباً أو إيجاباً، موقف الولايات المتحدة الأمريكية، وإيضاح أن موقف هذه الدولة العظمى في العالم يَتأثَّر كلَّ التأثُّر بموقف الكيان الصهيوني؛ مُبيِّناً أن هذا الكيان صَرَّح بعد مدة قصيرة من قيام الهَبَّة السورية أنه ليس لـه مصلحة في زوال النظام السـوري. وما دام الكيان الصهيوني لا يرى مصلحة له في ذلك - ولرؤيته هذه وجاهتها - فهل يُتصوَّر أن تَتَّخذ أمريكا موقفاً لا يرى الصهاينة مصلحة لهم في اتِّخاذها إيَّاه؟ وهذه المسألة بالذات لا يلتفت إليها كثير ممن يتناولون مجريات الأمور في سوريا مع الأسف الشديد.
في طليعة المتعاطين مع الشأن السوري الأمانة العامة لجامعة الدول العربية. والذي بدا لي من موقف الأمين العام تجاه ذلك الشأن أنه في مُقدَّمة المُثبِّطين للهمم. ومن الأدلَّة على ذلك اختياره لرئاسة المراقبين، الذين أرسلهم إلى هناك، رجلاً كان مشهوراً بالسوء. وما كان تَصرُّف ذلك الرجل في سوريا إلا مُؤكِّداً لما كان مشهوراً به من سوء. ولما فشلت الأمانة العامة للجامعة في مَهمَّتها التي أُوكِلت إليها - وما كان مُتوقَّعاً منها إلا الفشل - عُهِد بالمهَّمة إلى السيد كوفي عنان صاحب الخُطَّة المعروفة. فكان من سوئها أن اتَّخذت موقفاً أقرب إلى التواطئ مع مرتكبي الجرائم منه إلى العدل والإنصاف. وكان مما اقترحه ذلك السيد، وأُظِهر كأنه يحمل في دلالته كبحاً لارتكاب تلك الجرائم، سحب القوات الثقيلة من داخل المدن السورية. وقد رأيت أن ذلك المدلول غير وارد. فانسحاب تلك القوات من داخل المدن لم يكن ليمنعها من ضرب المدن بمدافعها. بل قد تكون فيه حماية لها من هجمات المقاومة الشعبية التي تنتشر عناصرها، في كثير من الأحيان، داخل المدن وليس خارجها بحيث تكون هدفاً سهلاً لنيران الدبَّابات والمُدرَّعات.
ولقد رأى الجميع فشل خُطَّة السيد عنان وانتهاءها، أو إنهاءها، غير مأسوف عليها. لكن من سوء الحظ أن الذي حَلَّ مَحلَّ عنان في التعامل مع النكبة السورية برهن على أنه يفوق في السوء أضعاف كُلٍّ من الأمين العام للجامعة العربية والأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان. ومن الأَدلَّة على ذلك أنه لم يشر ولا مَرَّة واحدة إلى أن الهَبَّة الشعبية في سوريا ظَلَّت سلمية أكثر من ستة أشهر. بل ظَلَّ يُردِّد كلامـاً يكاد يساوي بين المجـرم وضحية الإجـرام، ولا يختلف في جوهره ومدلوله عن كلام كُلٍّ من أعمدة النظام السوري المرتكب للجرائم وأركان النظام الإيراني المشترك في الإجرام مع النظام السوري وزعماء روسيا الذين يدعمونه؛ سياسيًّا وعسكريًّا.
وبعيداً عن المصلحة الذاتية، التي قد يكون الإبراهيمي يجنيها من استمرار إبقائه في مَهمَّته، أو عدم المبادرة في إعلان فشلها المحتوم حدوثه، فإن من الواضح أن المتواطئين كثيرون. لكن المُؤثِّرين فعـلاً منهم قليلون. إن المرء ليرى بجلاء ما بعده جلاء أن العالم الغربي، بزعامة أمريكا، لا يَهمُّه أن يُقتَّل من يُقتَّل من الشعب السوري؛ رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، مهما كانت بشاعة الطريقة التي يُرتكَب بها هذا التقتيل؛ تقطيعاً بالسكاكين والفؤوس، أو تمزيقاً برصاص البنادق والمدافع الميدانية، أو قصفاً بالطائرات، أو بالصواريخ بعيدة المدى. أن تُقطَّع أجساد الأطفال أوصالاً، وأن يُدفَن حَيًّا لعدم قوله بشار ربنا، وحتى حين كانت الهَبَّة السورية لم تلجأ بعد إلى استعمال القوة دفاعاً عن مواطنيها.. كل هذا لم يكن مُهمًّا في نظر زعامات الغرب المنافقة أو المتواطئة على النيل من أُمَّتنا. وأن تُهدَّم المدن والقرى على أهلها بنيران المدافع وقنابل الطائرات المختلفة الأنواع .. هذا لا يَهمُّ تلك الزعامات الغربية. وحين تصل الأمور إلى استخدام النظام السوري المجرم صواريخ سكود بعيدة المدى تبدأ الزعامات الغربية المذكورة بالتفكير؛ ليس لأن قصف تلك الصواريخ واسع الضرر على من وُجِّهت إليه وما صُوِّبت ضده؛ بل لأن الوصول إلى هذه المرحلة يُقرِّب إقدام النظام على استخدام السلاح الكيماوي، الذي قد يَمتُّد ضرره إلى مناطق فلسطين المُحتلَّة من قِبَل الصهاينة. ولَعلَّ هذا هو ما دفع الرئيس الأمريكي أن يَتَّصل - قبل عشرة أيام - مباشرة بالرئيس الروسي، ويَتَّفق معه على العمل لإيقاف القتال الجاري على الأرض السورية. وهذا الاتِّفاق من المُؤكَّد أنه لن يكون إلا على حساب المقاومين للنظام السوري المجرم، الذين يحرزون انتصارات وإن تكن الظروف الميدانية من حيث الأسلحة بالذات تجعل حركاتهم بطيئة الخُطَى. وأوضح ما يرمي إليه المتواطئون من داخل منطقة أُمَّتنا ومن كُلٍّ من الشرق؛ روسيًّا وصينيًّا ومن الغرب أوربيًّا وأمريكيًّا، هو أن يُفلت المجرمون من المعاقبة على جرائمهم الشنيعة.
ومع تخاذل المتخاذلين وتواطئ المتواطئين فإن بوادر أمل تبدو في الأفق تُبشِّر بانتصار قريب. ووجوه هذه البوادر مُتعدِّدة في طليعتها ما يُحقَّقه أبطال الهَبَّة الشعبية من بطولات ناجحة في الميادين المختلفة، وما تناقلته وسائل الإعلام من تَحرُّك شعبي في السويداء بالذات؛ إضافة إلى ما هو مشاهد من تَحرُّك في بلاد الرافدين التي سَلَّمها المحتل الأمريكي في طبق من ذهب إلى علوج الحقد المُتمثِّلين في رموز النظام الإيراني وأركانه. ومع التفاؤل بِتحقُّق انتصار أُمَّتنا على أعدائها فإن ثمن هذا الانتصار - كما تُوقِّع منذ البداية - مرتفع غاية الارتفاع. وإني لأكاد أعتقد أن أولئك الأبطال المُحقِّقين انتصاراً وراء انتصار ليتسابقون إلى ميادين التضحية والفداء وفي أذهانهم صدى كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي:
ولِلأوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ
يَدٌ سلفت ودَيْنٌ مُستحقُ
ومن يُسقي ويَشرب بالمنايا
إذا الأحرار لم يُسقَوا ويَسقوا!
ولِلحُرِّيُة الحمراءِ بَابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضرَّجةٍ يُدَقُّ
كتب الله لأُمَّتنا النصر المُؤزَّر على أعدائها من داخلها ومن خارجها.