|
يلقى كتاب (الملك فيصل.. شخصيته وعصره وإيمانه) رواجاً كبيراً داخل معرض الرياض الدولي للكتاب 2023م, الكتاب صادر عن «دار الساقي» ومن تأليف المؤرخ الروسي ألكسي فاسيليف, وهو واحد من أهم الباحثين في شؤون الشرقين الأدنى والأقصى, ويشغل منصب مدير معهد الدراسات الأفريقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية, وله عشرات المؤلفات ومئات المقالات.
وتكمن أهمية الكتاب في أنه أحد أهم الكتب القليلة التي تؤرخ لحياة ومسيرة الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- منذ سنوات طفولته الأولى وحتى وفاته.
وفي السطور القليلة القادمة نعرض بإيجاز لمحات من الكتاب..
صبي يمتطي الحصان الجموح
في بداية الكتاب استعرض «ألكسي فاسيليف» طفولة الملك فيصل بن عبد العزيز حيث واصل في كتابه ما بدأه الباحث «إيغور تيموفييف» والذي قد جمع مكتبة كبيرة من المؤلفات والوثائق لموضوع هذا البحث ولكنه توفي قبل أن يكمل مشروعه، وقد حصل الكاتب عليها من أرملة الباحث، وكان هناك بعض المقابلات الحية ممن عاشوا حول الملك وممن عاصروه أو عاونوه، وقد بدا على الكثير منهم مداهمة الشيخوخة وضعفت ذاكرتهم، ولكنه أستطاع إضافة لهم الاستشهاد بالوثائق العربية والعالمية، مراعياً في ذلك عدم تنقيحها صيانة لهويتها.
يقول فاسيليف: «توفيت والدة الملك فيصل بعد ولادته بخمسة أو ستة أشهر، وذكر البعض أن جدته كانت قد ابتهلت إلى الله أن يهب الطفل اليتيم مستقبلاً كريماً، وترعرع الصبي في بيت جده لأمه، واغترف من جده الإيمان العميق والصوم والصلاة وحسن السلوك وضبط النفس وعدم الانسياق وراء العواطف، والتحق بالكتاب وختم القرآن الكريم وأجلسوه على ظهر الحصان في احتفالية بهذه المناسبة، وبعدها كان يحضر مجالس العلماء في بيت جده ويصغي للمناقشات الفقهية. وقد كتب منير العجلاني عنه أنه سأله عما يحب قراءته فأجاب: بعد القرآن والسنة كتب التاريخ والأدب، وكان والده عبدالعزيز قد جعل له أخاً يرافقه وكان اسمه مرزوق والذي قد أندهش منه نزلاء فندق «ولدورف آستوريا» في نيويورك حين وجدوه يتناول الطعام معه على طاولة واحدة.
وبدنياً كان «فيصل» ضعيف البنية عن أترابه ولكنه كان يتميز عنهم بالدهاء والفطنة والبسالة، وكانت له علاقة خاصة مع أخيه الأكبر تركي تتسم بالإعجاب، وقد كان له فرساً معجباً بها بشدة، وكان ممن شاركوا في الفتوحات والحملات العسكرية، وعندما سمح لأخيه فيصل بركوبها أنطلق بها في جولة بمدينة الرياض حينذاك دون سرج أو ركاب على مرأى من الجميع».
وقد تناول المؤلف بعد ذلك فصلاً عن الملك الأب عبد العزيز مستعرضاً أوضاع المنطقة حينذاك والظروف التي تعيشها المناطق المختلفة في البلاد والصراعات القائمة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وانتقال الجد عبد الرحمن إلى الحياة في الكويت في ضيافة آل صباح الأسرة الحاكمة الحليفة، وكانت تلك الفترة بالنسبة لعبد العزيز فترة إعداد وتأمل للمرحلة القادمة وتخطيط، منها كانت انطلاقة عبد العزيز إلى الرياض لفتحها وتحقق له الأمر لتبدأ سلسلة الفتوحات والمعارك في أغلب المناطق وبعضها انتهى بالصلح والمعاهدة، ومن ثم بدأت ظروف التغيير وخرج «فيصل» الفتى اليافع إلى خارج حدود الجزيرة العربية في رحلة إلى الهند ثم بريطانيا والتقى بقصر بكنغهام بالملك جورج الخامس وعقيلته. وتلا تلك الفترة سلسلة من الفتوحات لمنطقة الحجاز انتهت بمبايعة الملك عبد العزيز بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها. وأصبح الفتى «فيصل» هو الساعد الأيمن لوالده في إدارة الحجاز المنطقة المفتوحة على العالم الإسلامي، وبعدها أصدر الملك عبد العزيز «الدستور» أو النظام الأساسي الذي شارك في وضعه أهل الرأي من الحجاز، وأكدت التعليمات أن الملك يعين في الحجاز نائباً له وكان «فيصل» هو من تولى مهمات النائب العام للملك في الحجاز. وكان أن التقى النائب فيصل في تلك الفترة بـ «عفت» الفتاة التركية التي حضرت للحج وأعجب بها ومن ثم تزوجها، وتعلم التركية ليستطيع التفاهم معها، وقد أنجبت له بعد ذلك اثني عشر طفلاً، وكانت بعد ذلك «عفت» هي من حصلت على لقب ملكة بشكل استثنائي، وقد أشرفت بنفسها على تربية أطفالها على الرغم من وجود الخدم والمربيات، وقد عرفت «عفت» بمشاركتها النشيطة في تعليم الفتيات، وقد ساهمت في إنشاء مدارس للتعليم النظامي حتى تولى الأمير فهد بن عبد العزيز بعد ذاك مسئولية وزارة المعارف بعد أن زادت عائدات الدولة عام 1954م. وعن تلك الفترة تقول «سارة الفيصل» عن والدها أنه (كان حنوناً على الأطفال رغم مشاغله وكان يرعى ابنته الصغيرة لطيفة ويلبسها البيجاما ويسهر عليها، وكانت علاقته بـ «عفت» مميزة ويشوبها التفاهم في أغلب الأمور على الرغم من شخصيتها الخجولة إلا أنها قوية وكانت مخلصة في عملها للوطن)، وقد كان التعليم النسوي أبرز اهتمامات الملكة عفت، واشتهرت بدعمها لأي جهة تتبنى تعليم الفتيات حتى حل التعليم النظامي الذي قوبل حينها بالاستهجان إلا أنه كان أمراً مدهشاًين وصل في نهاية القرن العشرين أن أعداد الطالبات في الجامعات كان أكثر من نصف عدد الطلاب.
فيصل.. أقوى حاكم عربي في القرن العشرين..
وفي هذا الفصل تناول المؤلف فترة حكم الملك فيصل -رحمه الله- فيقول: «في متصف الستينات تولى فيصل مقاليد الحكم، وعرف عنه انضباط مواعيده ودقتها ومباشرته لأمور الحكم بنفسه». ويؤكد منير العجلاني الذي عايش الملك فيصل وتابع أعماله بأنه شخصية لا تحب التهور ولا فرض رأيه على الآخرين، ويستخدم عامل الوقت في حل المسائل الصعبة. وكان في تلك الفترة الملف اليمني من أكثر الملفات التي شغلته، وقد عمل حينها على تخفيف التوتر بين الجنوب اليمنى والمملكة حتى المصالحة في قمة الرباط 1974م.
وكانت حمى النفط في أعلى وتيرة لها نظراً لتغير الكثير من الأنظمة للدول المصدرة للبترول وتحول بعض السياسات فيها، فكان النفط هو السلاح الأكبر في حرب الأيام الستة، وفي الحرب مع إسرائيل في أكتوبر 1973م، فعملت بلدان الأوابك لتحويل النفط على سلاح سياسي، وكان قرار الفيصل بهذا السلاح انتصارًا للوحدة العربية، وفي ذلك يقول بندر الفيصل «ما جعل الملك فيصل يقف مع السادات هو استعادة أرض سيناء وهي بالنسبة للملك فيصل الخطوة الأولى لاسترجاع القدس، وكان يعتقد اعتقاداً تاماً بأنه لن يقوم شأن للعروبة في تلك الأيام إلا بمصر، وليس هناك دولة يمكن أن تواجه إسرائيل إلا مصر، وكان لهذا الدور أن جعله أقوى حاكم عربي في القرن العشرين». وتعرض المؤلف بعد ذلك إلى مرحلة العلاقات الجديدة مع الولايات المتحدة «وأرسى نظاماً جديداً للعلاقات معها صمد أمام كل التقلبات طوال عشرات السنين، صمد أمام حرب الخليج الأولى عام 91، ولم يتقوض بعد أحداث 11 سبتمبر، وظل قائماً بعد حرب الخليج الثانية».
هل يغيب الملك إذا رحل..
وأشار المؤلف إلى الانفتاح الذي حدث في المملكة بعد عام 1974م، وذكر ما قاله سفير بريطانيا لدى المملكة «جيمس كريغ» في مذكراته: «عندما تأتي من المطار للرياض ترى المشهد نفسه في كل مكان، تحولت المدينة إلى ساحة بناء هائلة وبدت كما في كوابيس المنام، أينما يممت بوجهك تواجهك الرافعات العالية والعمال منهمكون في البناء وما أكثر ذلك البناء».
أنهى الكاتب بذكر حادثة مقتل الملك فيصل، مشيراً إلى أن الملك فيصل لم يغب بعد أن رحل. وفي الخاتمة للكتاب ذكر عنه -رحمه الله- بأن مراحل سيرة حياته تفوق التصور في غناها وتنوعها وكأنما جاءت من بطون الروايات الخيالية، ذلك الصبي الذي كان يرسم الحروف الهجائية على الرمل ويردد آيات القرآن ليحفظها، هو ذلك الفتى الذي امتطى حصان أخيه دون سرج ليطوف به في أقصى سرعة حول الرياض القديمة، وهو ذلك الناشئ الذي يدير دفة الحكم في منطقة الحجاز، وهو السياسي المحنك والقيادي الكبير والزعيم الذي يقود بلاداً توقع الكثيرون بانهيارها ولكنه قادها نحو العالمية، وكان في موقف عظيم تحول إلى أقوى حاكم عربي يتوقف على قراره مصير سوق البترول العالمي.