العالم الوزير، الواعظ الأمير, رجاء بن حيْوَة بن جرول أبو المقدام الكنديّ، يرى الزركلي أنه شيخ أهل الشام في عصره، من الوعاظ الفصحاء العلماء، كان ملازماً لعمر بن عبدالعزيز في عهد الإمارة والخلافة، أما سليمان بن عبدالملك فقد استكتبه، وهو يشير عليه، وهو الذي أشار عليه عندما
مرض ودنا أجله باستخلاف عمر بن عبدالعزيز فكانت نِعْم المشورة وله معه أخبار (الأعلام 3: 43).
ومع أنّ رجاء صاحب رأي وبعد نظر، فهو أيضاً، صاحب علم وتبحر فيه مع بُصْرٍ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ابن خلطان له حكاية في موقف مع سليمان بن عبدالملك الذي تولى عهد أبيه، فكان يعلق عليه آمالاً، لكن يد المنون اختطفته، قال لما حضر أيوب بن سليمان بن عبد الملك الوفاة، وكان ولي عهد أبيه، دخل عليه أبوه وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبدالعزيز وسعيد بن عقبة ورجاء بن حَيوة، فجعل سليمان ينظر في وجه أيوب، فخنقته العبرة ثم قال: إنه ما يملك أن سبق إلى قلبه الوجد عند المصيبة، والناس في ذلك أصناف، فمنهم المحتسب، ومنهم من يغلب صبره جَزَعَه، فذلك الجلد الحازم، وفيهم من يقلب جزعه صبره، فذلك المغلوب الضعيف، وإني أجد في قلبي لوعة، إن أنا لم أبردها، خفت أن تتصدَّع كبدي كمداً، فقال له عمر: يا أمير المؤمنين الصبر أولى بك فلا يحبطنّ أجرك، وقال سعيد بن عقبة: فنظر إليَّ، وإلى رجاء بن حيوة، نظر المستغيث، يرجو أن تساعده على ما أدركه من البكاء، فأما أنا فكرهت أن آمره أو أنهاه، وأما رجاء فقال: يا أمير المؤمنين: إني لا أرى بذلك بأساً ما لم يكن الأمر المفرط، وإني قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه فقال: تدمع العين، ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون. فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه، فظننا أن نيطات قلبه قد انقطع، فقال عمر بن عبدالعزيز لرجاء بن حيوة: بئس ما صنعت بأمير المؤمنين، فقال: دعه يا أبا حفص يقضي من بكائه وطراً، فإنه لو لم يخرج من صدره ما ترى خفت أن يأتي عليه، ثم أمسك عن البكاء، ودعا بماء فغسل وجهه وقضى الفتى وأمر بتجهيزه وخرج يمشي أمام الجنازة، فلما دفن وقف ينظر إلى قبره ثم قال:
وقفتُ على قبر مقيم بقفرة
متاع قليل من حبيب مفارق
ثم قال: السلام عليك يا أيّوب، ويسمي بعضهم رجاء بواعظ الملوك لجرأته.
وكان رجاء يوماً عند عبدالملك بن مروان، وقد ذكر عنده شخص بسوء فقال عبدالملك: والله لئن أمكنني الله منه.. لأفعلنَّ به ولأصنعنّ، فلما أمكنه الله منه، همّ بإيقاع الفعل به، فقام إليه رجاء بن حيوة المذكور فقال: يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببتَ، فأصنع ما يحبّ الله، من العفو، فعفا عنه وأحسن إليه. وقد شهد لرجاء هذا ابن عون بالمكانة والمنزلة.. حيث كان يعجبه رجاء وقال: ثلاثة لم أر مثلهم كأنهم التقوا فتواصوا: ابن سيرين بالعراق، وقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام.
أما أسلوبه في الوعظ فكان مقنعاً ومؤثراً، يحاول أن يلمس به أوتار القلوب، قال عبدالرحمن بن عبدالله إن رجاء قال لسدي بن عدي، ولمعن بن المنذر يوماً وهو يعظهما: أنظرا الأمر الذي تحبّان أن تلقيا الله عليه فخذا به الساعة، وأنظرا الأمر الذي تكرهان أن تلقيا الله عليه فدعاه الساعة.
ولقربه من سليمان بن عبدالملك، فإنه في المشورة يقدم الرأي الذي فيه مصلحة الرعية ويبتعد عما فيه مصلحة الأفراد لأنه لا يرضى عن دينه بديلاً، ويعتبر المستشار مؤتمناً، قال أبو نعيم في الحلية: كانت لي حاجة إلى رجاء بن حيوة، فسألت عنه فقالوا عند سليمان بن عبدالملك، فلقيته فقال ولىّ أمير المؤمنين اليوم ابن وهب القضاء، ولو خيرت بين أن ألي، وبين أن أحمل إلى حفرتي، لاخترتُ أنْ أحمل إلى حفرتي، قلت: إن الناس يقولون إنك أنت الذي أشرت به؟ قال: صدقوا إني نظرت للعامة، ولم أنظر إليه.
وبمثل هذه المشورة استحق أن يقول عنه ابن عون ما أدركتُ من الناس أحداً أعظم رجاء لأهل الإسلام من القاسم بن محمد ورجاء بن حيوة ومحمد بن سيرين. ولما سئل من أين تعلمت الحلم والصبر، وحب مساعدة الضعفاء؟ قال إني لواقف مع سليمان بن عبدالملك، وكانت لي منه منزلة. إذ جاء رجل ذكر رجاء بن حيوة من حسن هيئته وسمته، فسلّم وقال: يا رجاء إنك قد ابتليتَ بهذا الرجل وفي قربه الهلاك، يا رجاء عليك بالمعروف، وعون الضعيف، وأعلم يا رجاء أنه من كانت له منزلة من السلطان فرفع حاجة إنسان ضعيف، وهو يستطيع رفعها لقي يوم يلقاه وقد ثبت قدميه للحساب، وأعلم يا رجاء أنه من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته، واعلم يا رجاء أن من أحب الأعمال إلى الله فرحاً أدخلته على مسلم، ثم فقدته، فكان يرى أنه الخضر عليه السلام.
ويروى عن رجاء قوله: ما أحسن الإسلام بزينة الإيمان، وما أحسن الإيمان بزينة التقى، وما أحسن التقى بزينة الحلم، وما أحسن الحلم بزينة الرفق.. ولما قال له: عقبة بن وتاج: لولا خصلتين فيك لكنت أنت الرجل قال: وما هما؟ قال: إخوانك يمشون إليك، ولا تمشي إليهم، ووسمْتَ في أفخاذ دوابك لرجاء، وكانت سمة القبليّة تكفيك، فقال له: أما قولك يمشون إليك ولا تمشي إليهم، فربما أعجلوني عن صلاتي، وأما قولك إني وسمت أفخاذ دوابي، فإني لم أكن أرى بأساً أن يَسِمَ الرجل اسمه في أفخاذ دوابه.
ومن مواعظه المختصرة عظيمة النفع قوله: ما أكثر عبدٌ من ذكر الموت إلا ترك الحسد والفرح، ويقول في من عرض معرفة الرجال وكان معروفاً بأنه من أعقل الرجال وأرشدهم رأياً: من لم يؤاخ من الإخوان إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرضَ من صديقه إلا بإخلاصه له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كلّ ذنب كثُرَ عدوّه.
وقد عزّى عمر بن عبدالعزيز في ابنه فقال له: يا أمير المؤمنين أكان ابنك يخلق؟ قال: لا، قال: أفكان يرزق؟ قال: لا، قال: فما جزعك على مخلوق مرزوق، الله خير له منك، وثواب الله خير لك منه.
وكان يخشى الرياء، ويحرص على البعد عن مداخله، وإبعاد الناس عنه، لإدراكه أن الرياء يحبط العمل، ويفطر الناس بهذا، فقد نظر رجاء بن حيوة إلى رجل ينعس بعد الصبح فقال له: انتبه لا ينظن الناس أن هذا من طول السهر في الليل بالصلاة. وله رحمه الله نظرة خاصة في درء الشبهات، صوناً لكرامة المؤمن، وحقن دمه، فقد قال عبدالرحمن بن يزيد عن جابر: كنا مع جابر بن حيوة فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحد يقوم بشكر نعمة، وخلفنا رجل على رأسه كساء، فكشف الكساء عن رأسه، فقال: ولا أمير المؤمنين؟ قلنا: وما ذكر أمير المؤمنين ها هنا! إنما أمير المؤمنين رجل من الناس ففضلنا عنه، فالتفت رجاء ولم يره، فقال: أتيتم من صاحب الكساء، ولكن إذا دعيتهم فاستحلفتم فاحلفوا، فما علمنا إلا وهو بحرس قد أقبل فقال: أجيبوا أمير المؤمنين، فأتينا باب هشام فأذن لرجاء من بيننا، فلما دخل عليه قال: هيه يا رجاء يذكر أمير المؤمنين فلا تمجّ له؟ قال: فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين قال: ذكرتم شكر النعم، فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة. قيل لكم ولا أمير المؤمنين؟ فقلتم أمير المؤمنين واحد من الناس، فقلت: لم يكن ذلك قال: الله؟ قلت الله، قال رجاء: فأمر بذلك الساعي فضرب سبعين سوطاً فخرجتُ وهو متلوث بدمائه فقال: هذا وأنت رجاء بن حيوة؟ قلت سبعون في ظهرك خير من دم مؤمن.
قال ابن جابر: كان بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس إلتفت فقال: احذروا صاحب الكساء. وقد رأى جابر بن حيوة في منامه من يعلمه دعاء ينفعه فقال رجاء: لقد رأيت من يخاطبني في المنام بقوله: قل فقلت له: وما أقول؟ فقيل له قل: اللهم إني أسألك السبق إلى رضوانك والمسارعة فيه بالقول والعمل، والسر والعلانية وأعوذ بك من سخطك من قول أو عمل في السر والعلانية.
وله حكايات مع عمر بن عبدالعزيز من ذلك قوله: أمرني عمر بأن اشتري له ثوباً بستة دراهم، فأتيته به فجسّه وقال هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً، قال رجاء: فبكيت قال: ما يبكيك؟ قال: أتيتك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم فجسسته وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه خشونة، وأتيتك وأنت أمير المؤمنين بثوب بستة دراهم فجسسته وقلتَ: هو على ما أحب لولا أن فيه ليناً، فقال: يا رجاء إن لي نفساً تواقة، تاقت إلى فاطمة بنت بن عبدالملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل.
وكان فقيهاً محدثاً وقد كتبت سيرة حياته في أكثر من كتاب منهم ابن الجوزي، وأطال ابن سعد في سيرته، وقد مات ولم يبلغ الأربعين -رحمه الله.
mshuwaier@hotmail.com