ابن الخطيب وزير أندلسي عاش في عهد بني الأحمر آخر حكام الأندلس، غني عن التعريف لشهرته الفائقة، فهو سياسي وشاعر وناثر. وشعر لسان الدين بن الخطيب كثير في المدح، ولا غرابة في ذلك، فهو مرتبط بالحكام ووزرائهم، ولا بد له من التزلف والنفاق لكسب رضاهم، وطالما أنه يملك أداة من أدوات التزلف وهي الشعر فمن المنطق أن يستخدمها ما وسعه ذلك في زمن كان النفاق فيه الوسيلة المثلى لبلوغ المأرب، ونيل المطلب، لا سيما أن نفسه تعج بالمطامع المالية، والمطامع الإدارية، رغم غناه الفاحش، شأنه شأن كثير من خلق الله الذين لا يوقفهم عن السعي لجمع المال، والاستمتاع بالجاه سوى التراب. ابن الخطيب مصارع صنديد في الدَّهاء والمكر والمكائد التي تحفل بها في الغالب قصور الحكام.
ويمكننا القول أيضا إن المدح ميدان لإشهار الشاعر في الأوساط الأدبية والشعبية، وابن الخطيب غير مكثر من شعر الغزل، فيطرقه في بعض الأحيان استهلالاً لقصائد ذات أغراض أخرى، أو يقوله نزولا عند رغبة السلطان، والقليل من شعره الغزلي لا يعبر عن عاطفة جياشة من الحب تملأ قلبه، فقلبه منصرف لحب المال والسلطة، وغزله ليس عفيفا محضا، وليس فاحشا صرفا، وهو بين الأمرين، فهو سليل أسرة معروفة بالزهد والعفاف والعلم الشرعي، كما أن مكانته الاجتماعية والرسمية وتربيته التي نشأ عليها تمنعه من الاسترسال في الغزل والفحش فيه، على أن شعره لم يَخْلُ من غرض من الأغراض الشعرية المشينة في المجتمع الأندلسي، وهو التغزل بالمذكر، وإن كان ذلك قليلا.
أما هجاؤه فقد كان منصبا على تلاميذه ومخدوميه الذين أساءوا إليه وتنكروا مع تنكر السلطان الغني بالله له، شأنهم شأن المنافقين، الذين غالباً ما يحفون بالسلاطين، فيميلون حيث تميل الريح. ومن أمثال أولئك ابن زمرك، وأبو الحسن البناهي، وابن فركون، وابن قطبة. أما ابن كماشه فيبدو أنه هجاه لسخط السلطان عليه نفاقا منه للسلطان عندما كان راضيا عليه.
-2-
ويبدو أنه وقور في ذلك مترفع بما يليق بمكانته الأسرية والمالية والسياسية، لكن شعره ونثره لا يخلو من المداعبة والمفاكهة مع أصحابه وأقرانه وأعوانه، والهجو والقدح والتهكم لأعداءه، وهو لا يحب الحديث عن الخمر إلا من باب الدعابة، أو بأمر من السلطان فيقول مثلا :” وأمرني رحمه الله بنظم أبيات صبوحية على عادته من الانحطاط عن الجزالة ولين عريكة الكلام”.
ولم يقتصر قدح ابن الخطيب على تلاميذه ومخدوميه الذين تنكروا له، فها هو يسل لسانه على رجل من رجالات السلطان الغرناطي الغني بالله هو ابن كماشه الذي فشل في مهمات كثيرة أوكلها له السلطان، ومنها سفارته إلى المغرب لإحضار عائلة السلطان، وهي المهمة التي نجح فيها ابن الخطيب بينما فشل فيها ابن كماشه، فقال في ابن كماشه : (الطويل):
كُمَاشِيُّكم من أجْلِه انكمَشَ السعدُ
إذا ما اطَّرحْتُمْ شُؤْمَهُ أُنجزَ الوعدُ
ومنْ لَمْ تَكُنْ من قَبْلُ للسَّعدِ عِنْدَهُ
مَخِيلَةُ نَجْعٍ كيفَ تُرجى له بَعُْد؟
وتَصْرِيفُهُ المَشْؤومُ فلتَتَذكَّروا
وما قُلْتُ إلاَّ بالذي قد عَلِمَتْ سَعْدُ
وقال فيه أيضا: (مجزوء الرمل)
قيلَ لي : ماتَت فراشةٌْ
من بُخارِ ابن كُماشَه
أحْرَزتْ أجْرَ شهِيدٍ
نَالهُ الطعنُ ونَاشَه
رحمةُ الله ورضوانٌ
على تلكَ الفراشَه
وفي أخرى: (الكامل)
مرَّ الذُّباب على فَمِ ابن كُمَاشَه
فانْفَضَّ عسكَرُهُ وهِيضَ جَنَاحُه
فكأنهم صرعى وقد عصفت بهم
مسمومة عند الصباح رياحه
صُرْعَانُ حرب من بني حرب وقد
حمل السلاح عليهم (سفَّاحُه)
أعليُّ جل الله كم من خائن
ناجيته صبحا فساء صباحُه
وهو في قوله “بني حرب” يشير إلى الأمويين أبناء أمية بن حرب الذين أطاح بهم العباسيون على يد أبي العباس السفاح وهو المشار إليه في كلمة “سفَّاحُه”، ثم يشير مرة أخرى إلى الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وصراع الأمويين معه.
-3-
وأقول إن تلافي الصراع مع أصحاب الألسن الحداد من حسن التدبير لكن إذا ما ابتليت فما عليك إلا الصبر امتثالا لقول الشاعر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخيرٌ من إجابته السكوت
لكن كان من حظ ابن كماشه أن الناطق ليس سفيها وإنما سياسي وشاعر وناثر مرموق بخلاف كثير من الناطقين في هذا الزمان الذين قد ينطبق عليهم بيت الشعر المذكور آنفاً.