إن التدخل العسكري الفرنسي في مالي يتقدم بسرعة، حيث يمثل سقوط تمبكتو مؤخراً مَعلَماً بالغ الأهمية على مسار الجهود الرامية إلى دحر المتمردين الإسلاميين الذين سيطروا على شمال البلاد. وبشكل أكثر عموماً، يؤكد النجاح الواضح للتدخل على ثلاث نقاط رئيسة.
فهو أولاً يؤكد أن فرنسا لا تزال قادرة على العمل كمحرك رئيس لأوروبا، ففرنسا لديها قوة عسكرية كبيرة وقابلة للانتشار السريع، كما أظهرت في ليبيا عام 2011،
وعلاوة على ذلك، ترتبط هذه القدرة العسكرية بنظرة عالمية، وليس مجرد الدفاع عن مصالح اقتصادية.
ففي مالي، لا تسعى فرنسا إلى المطالبة بموارد، أو تصدير الديمقراطية، أو توسيع رقعة أفريقيا الفرنسية التي لم تعد تؤمن بها. وعلى نحو أقل تشويقاً، تسعى فرنسا إلى تحقيق الاستقرار في بلد خاضع لقوى عنيفة لا تقودها دوماً جهات تنتمي إلى مالي، ومن المرجح أن توقع الفوضى في هذه المنطقة الفرعية بالكامل وتهدد أوروبا.
وثانياً، يسلط هذا التدخل الضوء مرة أخرى على الأهمية الإستراتيجية التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي، الذي يروج «لإستراتيجية شاملة» في التعامل مع مالي والمنطقة بالكامل من أجل تجنب السؤال الحاسم: تحت أي ظروف قد تستخدم أوروبا القوة؟
وتتعلق النقطة الأخيرة بطبيعة التورط الأميركي في الصراع. فالولايات المتحدة تظل الحليف الإستراتيجي الأكثر قيمة لفرنسا في هذا المسعى، ولكن الشروط تغيرت. فبعد عشر سنوات من التدخلات العسكرية غير المثمرة (في أفضل وصف لها) دفعت القيود المفروضة على الميزانية إدارة الرئيس باراك أوباما إلى التضحية ببعض القوات البرية من أجل الحفاظ على القدرات الجوية والبحرية الكبيرة سالمة، والغرض من ذلك على ما يبدو احتواء الصين.
وكانت إعادة التقييم من جانب أوباما سبباً في زيادة حِدة التحول الواقعي في السياسة الخارجية الأميركية، والذي أصبحت الولايات المتحدة الآن بموجبه غير راغبة في التدخل إلا عندما تتعرض مصالحها المباشرة للخطر. وفي حالات أخرى، سوف يكون لزاماً على حلفاء أميركا أن يبرهنوا على التزامهم من أجل الحصول على دعم مشروط.
ولقد تم تطبيق هذا النهج الجديد على ليبيا، حيث كان الطابع المميز له «القيادة من الخلف». ولكن هذا المفهوم غير ملائم لأنه يعني ضمناً أن الولايات المتحدة كانت القائدة في نهاية المطاف. ومن الواضح أنها لم تكن، فلولا الدفعة الأولية من فرنسا وبريطانيا العظمى، فإن الولايات المتحدة كانت لتظل سلبية في الأرجح، وهو ما نصحت به وزارة الخارجية ووزارة الدفاع. (حتى أن وزارة الخارجية ذهبت إلى حد تحذير فرنسا وبريطانيا العظمى من التصويت لصالح قرار الأمم المتحدة رقم 1973، الذي سمح بالتدخل).
وفي نهاية المطاف قلب أوباما موقف المسؤولين البيروقراطيين لديه، فاقترح تدخلاً عسكرياً قوياً، من دون قوات برية، لفترة محدودة للغاية. وفي النهاية، قدمت الولايات المتحدة 75% من عمليات الاستخبارات، والمراقبة والاستطلاع، و75% من التزود بالوقود في الجو، و90% من الاستخبارات الخاصة بتحديد الأهداف - وهي مساهمة كبيرة بلا أدنى شك. ورغم هذا فإن ليبيا كانت بمثابة البداية لمفهوم جديد - ينطبق على مالي - يمكن تسميته «المتابعة من الأعلى». أو بعبارة أخرى، تنقل الولايات المتحدة إلى حلفائها أنها لم تعد راغبة في التدخل في المناطق ذات الأولوية المنخفضة ما لم يلتزم حلفاؤها بذلك أولاً، تماماً كمثل المستثمر الذي ينتظر من المتعهد تقديم دفعة أولى. وكما حدث في ليبيا، فإن فرنسا كان لزاماً عليها أن تأخذ زمام المبادرة في مالي. وكما كانت الحال في ليبيا، فإن الدعم الأميركي كان حاسماً في المجالات الأربعة التي تنقص فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية: الاستطلاع الجوي، وتحديد الأهداف، والنقل الجوي، والتزود بالوقود في الجو.
ولكن خلافاً لما حدث في ليبيا، أخذت الولايات المتحدة في مالي خطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات عبر الأطلسية من خلال النظر في جعل فرنسا تدفع في مقابل استئجار طائرات نقل القوات. ورغم تجاهل هذا الاقتراح في نهاية المطاف، فإنه يكشف عن تآكل الدعم الأميركي وتصميم الولايات المتحدة على الإشارة إلى عدم تحمسها لمساعدة الأوروبيين الذين يتعرضون للمخاطر.
وهناك فضلاً عن ذلك خلافات حقيقية داخل البيروقراطية الأميركية عندما يتعلق الأمر بتقييم التهديد الذي تفرضه القاعدة في مالي على مصالح الولايات المتحدة. وبالتالي فإن مبدأ المتابعة من الأعلى يحمل أهمية رمزية وأهمية تتعلق بالعمليات. فعلى مستوى العمليات، يقتصر على الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع ولا يشتمل على قوات برية. ومن الناحية الرمزية، فهو يعني دعم الجهود الأولية الملموسة التي يبذلها آخرون.
وبالنسبة لأوروبا، فإن هذا الموقف يبعث على القلق لسببين. الأول أنه يوضح ديناميكية التوقف ثم التحرك التي تستند إليها السياسة الأميركية، والتي قد تتأرجح - في غضون خمسة أعوام فقط - من التوسعية المزعجة إلى انسحاب مزعج بالقدر نفسه من العالم. صحيح أن تمكن الجهاديين من مالي لا يهدد الولايات المتحدة بشكل مباشر، أو على الأقل لا يهددها بقدر ما يهدد أوروبا، ولكن هل من المنطقي أن نتمسك بهذا التحليل البسيط بعد ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001؟
وثانياً، تستمر أوروبا في تجاهل الحاجة إلى تحديد الظروف التي قد تسمح لها باستخدام القوة، ليس من أجل حفظ السلام بل لقتال قوات معادية محتملة. إن النفور من الحرب يُعَدُّ واحداً من أشد المخاطر التي تواجه أوروبا حالياً.
وبالنسبة للفرنسيين، فإن الموقف الأميركي من شأنه أن يفرض إعادة تقييم أهمية أفريقيا في الإستراتيجية العالمية لفرنسا، فمن الواضح أن الكتاب الأبيض حول الدفاع الذي أصدرته الحكومة في عام 2008 والذي يقلل من أهمية القارة، من شأنه أن يبرر في الأرجح تقليص القوات البرية الفرنسية. وعلاوة على ذلك فإنه يشجع فرنسا على التطرق إلى موضوع القوة العسكرية مع حلفائها الأوروبيين.
ومن المعروف عن المستشارة أنجيلا ميركل انتقادها لفرنسا لكونها غير متحمسة بالقدر الكافي للاتحاد السياسي الأوروبي. والسؤال المطروح الآن هو كيف نبني أوروبا بدول تدفن رؤوسها في الرمال كلما ذُكِر موضوع استخدام القوة، في حين تعترف باستخفاف بأن فرنسا تدافع عن أوروبا بالكامل في مالي.
والآن يتعين على فرنسا أن تصر على تعالج مسألة استخدام القوة باعتبارها شرطاً مسبقاً لأي مفاوضات بشأن التكامل السياسي في أوروبا. ومن خلال إثباتها لأوروبا أنها تتابع تحركاتها من الأعلى، فإن الولايات المتحدة سوف ترغم الأوروبيين على الإفاقة من سباتهم السياسي وتواضعهم الإستراتيجي. ويبقى السؤال ما إذا كان الأوروبيون على استعداد للقيام بهذا.
زكي العايدي أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس، ومؤلف كتاب «إنجازات محدودة: سياسة أوباما الخارجية».
- خاص (الجزيرة) - باريس