تتلاحق إفرازات الثورة التقنية الإلكترونية لتوفر لنا معطيات حاسوبية رقمية مذهلة، بل إن السباق بات محموماً بين كبريات الشركات المبدعة في هذا المجال لإنتاج برامج غاية في الإتقان يقف أمامها (غير المتخصص) مبهوراً بإمكاناتها، مأخوذاًَ بدقتها. غير أن العقول تختلف في التعامل معها، فهناك (وهنا) عقول راقية تستثمر هذه النعم التقنية بما يفيدها ويطوّر قدراتها على العطاء لخدمة الآخرين كل في مجاله وتخصصه، وفئة من العقول استغلت هذه البرامج التي يمكن تحميلها على الأجهزة المحمولة واللوحية بأسعار رمزية في بث مقاطع فيديو وصور ثابتة ورسائل تخدم أغراضاً لا تعود بالفائدة عليهم ولا على مجتمعهم، بما يعني أنها تستخدم لإضاعة الوقت في غير فائدة سوى التسلية، وهذا مجال مباح لكنه غير الهدف الأساس لتلك البرامج، والمؤسف استغلالها في بث صور مغرضة مغلوطة تشوّه معلومات تخص أفراداً وجماعات وطوائف، مصحوبة بتعليقات وتسجيلات غير حقيقية مع تغيير طبقة الأصوات باستخدام التقنية ذاتها في محاولة لإقناع المتلقي بصدقية مضامينها وما يترتب عليه بعد ذلك من نشر وتوزيع للمعلومة الخاطئة الكاذبة، خدمة لأغراض وميول في أنفس من ركّب ونسج تلك المواد وبدأ توزيعها.
من ذلك صورة نشرت مؤخراً تظهر امرأة تجمع بقايا طعام قرب حاوية للنفايات غرب الرياض، ويعلق ناشرها بأنها فقيرة لا تجد قوت يومها، دون أن يقرن ذلك بأي برهان على كلامه، ويعيد للأذهان صورة مماثلة سبق نشرها لامرأة في بريدة ويربط الصورتين بحالات الفقر دون دليل مقنع. وأذكر إني شاهدت مقطع بريدة وهو بالصوت والصورة، ويسألها أحدهم إن كانت تحتاج لأي مساعدة أو أنها من ذوات العوز أو نحو ذلك؟ فتجيبه أكثر من مرة بالنفي، مما يشير إلى أنها تجمع بقايا الطعام والخضار والفواكه من قرب حاوية على جانب سوق للخضار لتقدمها فيما يبدو لبهائمها. والذي جعلني أرجّح هذا التوجه أنني ذات يوم في سوق للفواكه والخضار بالرياض شاهدت رجلاً مسناً يجمع شيئاً مما تم استبعاده من فواكه وخضار معطوبة في كراتين، سألته إن كان يحتاج للمساعدة من أي نوع كان؟ فأجاب بأنه -ولله الحمد- بخير لكنه يحترم ويقدر نعمة الله فينقلها لبهائم في حظيرته ليجمع بين الفائدة والأجر من الله سبحانه. مشهد آخر عند باعة للورقيات من الخضار، حيث وقف رجل يجمع ما تناثر أو رمي من خس وجرجير ذابل وشبه تالف وغيرها من أمام الباعة. سألت البائعين: هل هذا مسكين؟! فضحكوا وقالوا: هذا من أصحاب المطاعم، كل يوم يأتون للتنافس على جمع المتناثر والبائت وشبه الفاسد ليقدموه لكم في الطبخ والسلطات في مطاعمهم. لم أبالغ بذلك وأنا مسئول أمام الله سبحانه عمّا فلت.
صور الفقر يمكن أن تشاهد بغير هذه الفبركات وهي غير منكرة ومعترف بها والحلول جارية لمعالجتها بالتدرّج، والفقر يمكن أن يحدث لأي إنسان في أي بلد وبنسب متفاوتة، إلاّ أن تركيب الصور أو التقاط صور عفوية وبثها لخدمة أهواء في بعض النفوس وتخالف الواقع بمبالغات غير منطقية فهو غير مقبول.
t@alialkhuzaim