وحتى نأخذ فكرة واضحة عن التاريخ الفكري لجامعة القرويين لا بد أن نستعرض أمامنا شريطًا قصيرًا لبعض الأحداث التي عاشها المغرب، فحياة القرويين ظلت متأثرة بظروف الحياة في المغرب كما جاء في كتب المؤرخ المغري عبدالهادي التازي...
فلقد كانت أول دولة إسلامية استقلت بالمغرب هي مملكة الأدارسة التي اتخذت فاساً عاصمتها، ولقد كان من مبادئها أن تتمسك بالحياد أمام تنافس «الأغالبة» بإفريقيا، والأمويين بالأندلس، لكنها غلبت على أمرها منذ ظهور العبديين سنة 305هـ (961م) فمدت اليد إليهم وخطبت لهم على المنابر وهنا أخذت قرطبة تلوح بوعدها للرؤساء الزناتيين الذين كانوا قد استبدوا بالأمر بعد انسحاب الأدارسة، وظل منبر جامع القرويين ردحاً من الزمن ميدان تنافس بين قرطبة وإفريقية، وعندما اختلت الأمور بالأندلس أوائل القرن الخامس الهجري رجع المغاربة إلى عدم «التبعية»، وقصد العلماء والشعراء أمير فاس هنأوه ومدحوه، ورأت «حضارة المغرب» أعواماً زاهرة لكن اختلاف الرؤساء كدر من صفو عيشها أياماً، وبينما الناس في تنافسهم سادرون إذ بالمرابطين ينزلون على أبواب المدينتين اللتين أصبحتا من الآن مدينة واحدة، ولقد أدى التدهور الذي شمل الأندلس إلى الاستسلام ليوسف بن تاشفين «أمير المسلمين»، وهكذا غدا المغرب - أكثر من أي وقت مضى - ملاذًا للفقهاء ورجال العلم الأندلسيين، وفي أوائل القرن السادس كانت خيوط المؤامرة تحاك لهذه الدولة «الجامدة» كما ينعتها الخصوم الموحدون، وأزفت سنة 540هـ (1146م) فورد معها عبد المؤمن الموحدي يحاصر فاساً، وسينتقم من المرابطين الملثمين ويحطم من آثارهم... ويضيق على القاضي عياض في سبتة الحصار أيضاً، وكانت تتم بمدينة مراكش - بين الفينة والأخرى - اجتماعات تضم أعيان الأمبراطوية الموحدية من إفريقية والأندلس وباقي أجزاء المغرب يحضرها القضاة والعلماء والفقهاء والخطباء والشعراء، وكانت فاس تشهد هذه الوفود كلها جيئة ورجوعاً إذ كانت «الممر الطبيعي» لسائر الجاهات...
وعندما يتحدث التاريخ عن حضارة أمة ما من الأمم أو مدينة ما من المدن فإنه يقصد إلى عدد من المقومات وطائفة من المكونات التي تجعل من تلك الأمة من تلك المدينة حاضرة، وفيما يخص فاس بالذات، فهي على الرغم من أنها العاصمة الأولى للدولة الإسلامية بالمغرب الأقصى لكنها فيها شيئا آخر كان وراء العاصمة، وهو قلبها وهو عصبها وروحها وسمعها وبصرها، وهو كل شيء فيها ولم يكن هذا الكائن غير القرويين التي ظلت القلب النابض والعقل المفكر لتلك الحاضرة...
وإن ما عرفت به فاس من تقدم اقتصادي وازدهار صناعي ورقي اجتماعي مدين للعلم والثقافة، ولم يكن هناك من مركز يمثل ذلك العلم وتلك الثقافة إلا جامع فاطمة أم البنين الذي أصبح بمثابة جامعة بكل ما تحمله كلمة الجامعة من معنى، يرجع إليها الفضل الأول في إعلاء شأن البنيات التحتية وتدرجها في مدارج الكمال، لهذا كانت فاس، والمغرب وراءها، مدينة للقرويين في كل ما نالته من حظوة طوال التاريخ...
تذكر كتب التراجم وقواميس اللغة ومدونات الحديث الشريف لقباً حضارياً رفيعاً هو نعت (المسند) وأنه - أي المسند - المصدر الأصيل لكل عمل وازن وجاد، ونحن في المغرب الأقصى نعتقد أن جامعة القرويين تستحق أن تنعت بالمسند لأنها كانت بالفعل مسنداً وإسناداً للجناح الغربي من العالم الإسلامي، عن طريقها تعرفنا على عالم المشرق، وعن طريقها اكتملت هوية المغرب وإلا لكنا نحمل أسماء غير أسمائنا ولكنا نتحدث لساناً غير لسان القرآن الكريم...
مئات من رجالنا رحلوا إلى المشرق تأثروا لما تلقنوه من القرويين، وأصبحوا من مكونات ذلك المجتمع، ومئات من أهل المشرق وجدوا لهم في المغرب وطناً ثانياً كما أشرنا... وكل ذلك كان بفضل القرويين التي كانت لها ماتة قوية بالمشرق بفضل الحرف العربي الذي وحد بين الجناحين جناح المحيط والخليج المتوسط...
ولقد امتاز الفتح الإسلامي من بين الفتوحات الأخرى بأنه جاء يحمل «كتاباً» ولذلك نرى أن التعليم كان في صدر ما يهتم به الإسلام، ولما كان المسجد هو المركز الوحيد لتجمع المؤمنين فقد كان بالذات هو المدرسة الأولى، وبهذا نستطيع أن نقول، إن مسجد قباء كان أول معاهد التعليم في المشرق وأن أول مدرسة اختطت بالشمال الإفريقي كانت في القيروان، وتبعت كلا من الأول والثاني، مساجد انتشرت هنا وهناك كجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بالمغرب، وجامع الأزهر بمصر، الخ... بيد أن هذه المساجد لم تظل باستمرار مراكز للتعليم، ففيها ما انتهت الدراسة فيه منذ وقت مبكر، وفيها ما انقطعت منه ردحاً من الزمان، لكن جامع القرويين بفاس تختص:
أولاً بأنها شيدت في مدينة وضع حجرها الأساسي لا برسم أن تكون بلداً تجارياً، أو مدينة صناعية، ولكن لتكون «دار علم وفقه»
وثانياً فإن العلماء والفقهاء هم الذين كانوا يشرفون على بنائها منذ اليوم الأول.
وثالثاً فإن الدراسة فيها استمرت بصفة مطردة منذ الفترات الأولى، ولم تتفكك حلقاتها العلمية حتى في الأعوام التي كانت تتم فيها أعمال الترميم والبناء، وحتى عندما اتخذت دولة المرابطين عاصمتهم مدينة مراكش سنة 462هـ (1170م) ظلت القرويين مركز «إشعاع علمي» وظل قضاة «العاصمة الجديدة» يبعثون بأبنائهم للتزود من أفاويق لبان القرويين، الأمر الذي لم تتخل عنه أيضاً الأصقاع الجنوبية، ومدن الجهات الشمالية.
فإذا عرفنا إلى جانب هذا أن جامعة بولونيا (بإيطاليا) أسست سنة 1119م وجامعة أكسفورد (بإنجلترا) سنة 1229، وجامعة السوربون (بفرنسا) سنة 1257، إذا عرفنا كل ذلك قدرنا إذن ما أكده بندلي جوزي (ت 1942) من أن «أقدم كلية في العالم ليست في أوروبا كما كان يظن بل في إفريقيا في مدينة فاس عاصمة المغرب».
ولم تلبث القرويين أن استنامت منذ أيامها الأولى - لمذهب الإمام مالك الذي وردت طلائعه الأولى مع دولة الأدارسة وتعززت بمناصرة أعلام قرطبة ومساندة القيروان، وهكذا اتخذت المادة العلمية - نتيجة لذلك - اتجاها مالكياً وأصبحت أفكار مالك والمؤلفات التي دونها رفاقه هي التي تحتل زوايا القيروان، واستمر المذهب المالكي في ازدهار متوال طوال أيام الخلافة المرابطية، فكانت العلوم الدينية تحتل المقام الأسمى إلى جانب العلوم الأخرى... إنها دعوة لفتح باب الاجتهاد على مصراعيه... ومع هذا فقد عنيت دولة الموحدين بسائر العلوم والفنون الأخرى باستعانة الأساتذة الذين تصدروا الكراسي العلمية..
كما أن الذي يعرف أن ميزانية جامع القرويين بلغت منذ أوائل القرن السادس ثمانين ألف دينار أي ما يساوي زهاء مليون وستمائة ألف من «الدراهم» المغربية، أقول إن الذي يعرف ذلك يعرف المورد الخصب الذي كان ينعم به رجال القرويين على ذلك العهد فقد كانوا إذن في سعة تجعلهم يتفرغون لمهامهم على ما يجب.
كان الرجال والنساء على السواء يتهافتون على التحبيس على القرويين بكل ما يمتلكونه من غال وثمين... ولقد حدث ذات يوم أن احترقت سجلات أوقاف القرويين ولم يعرف التمييز بين العقار المحبس على القرويين والعقار التابع لمالكيه... فحكم القاضي بضم جميع عقار فاس للقرويين باستثناء من يدلي برسم يتبث ملكيته لعقاره. أكثر من هذا حدث أن الدولة نفسها كانت تقترض من مال القرويين عند الحاجة..!