“زامر الحي لا يُطْرب” مثل ينبض في كل الشرايين, ويفيض بكل المعاني, ولكنَّه لا يوقظ الكهفيين, وكلنا ذلك الصنف المَذُودِ عن دوحه, تصوروا معي, لو وقع في يد أحدنا كتابٌ يتحدث فيه صحفي عن تجربته الصحفية, من بلاد ما وراء البحار, لكنا
إثره متيمين, ولم نُفْد مكبَّلين.
ولو تحدث, أو كتب صحفي مثل “المالك” أو “السديري” أو “هاشم” أو ما شئت من تلك الصفوة عن تجربته الصحفية الثرية, والطويلة, لأصبح لسان حاله, كـ”نوح” مع قومه: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاستغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}, وحتى لو أَسَرَّ أولئك, أو جهروا, فإنهم لن يحركوا شعرة في مفرق البسطاء, فضلاً عَمَّنْ سواهم من الكتبة.
ثم ارجعوا البصر كرتين, وتصوروا ثانية, أو أكثر من ذلك. لو أن ناقداً معرفياً كـ[سعد البازعي] أو مُنَظِّراً جريئاً كـ[الغذامي] أو مترجماً متمَكناً من اللغتين كـ[حمزة المزيني] أو روائياً مبدعاً كـ[يوسف المحيميد] أو شاعراً فذاً كـ[الفقي] أو كاتب سيرة ذاتية كـ[القصيبي] أو تراثياً متوازناً كـ[المانع] أو باحثاً محققاً كـ[الجاسر] أو موسوعياً كـ[ابن عقيل], أو رحالة كـ[العبودي], أو ما شئت من أولئك الآباء الذين لن نأتي بمثلهم, لو أن أحداً من أولئك استدعي على استحياء.
- أيعرفه منا أحد, على ما هو عليه من قدرات استثنائية؟
وتلك الشنشنة التي نَعْرِفها من أنفسنا, لا تحفل بالمبدعين المتألقين, ولا بالعلماء المحققين, ولا بالتراثيين المؤصِّلين. ذلك أن أزهد الناس بالعالم أهله الأقربون.
شعراء, وسَرْدِيون, ونقاد, وصحفيون, وفنانون تشكيليون, وعلماء: شرعيون وطبيعيون, وأطباء ماهرون, يمرون بنا كسحائب صيف, لا تلبث أن تنقشع, ثم يأوون إلى كهف النسيان, فيما يُنْشر ذكر غيرهم من أبناء العمومة.
ولو كان الاحتفاء وقوداً للأداء, لتعطلت عَجَلةُ الحياة. وكم من مُصْلح ديني, أو سياسي, أو اجتماعي, تحطم على صخرة الواقع. ذلك أنهم كمن {يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}.
وإذا كان المتعذبون من الصدود والتصدي, ينقمون على جور أهلهم, فليتذكروا الأنبياء, وما يلاقونه من أقوامهم, ليتأسوا بردة الفعل الأكثر حميمية: {اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون}.
فأين الساخطون من ذلك الصدود؟. ولا غرو, فلقد كان لنا في رسول الله أسوة حسنة.
قلت ذات مرة لأحد المثاليين, بعد أن أدى القسم بين يدي ولي الأمر, ليبدأ رحلة العمل في أهم وزارة, مباركا, ومثبتا لفؤاده:
أخشى ما أخشاه أن تتحطم على صخرة الواقع. فامتعض, واستبعد ذلك, ولسان حاله يقول: [فأل الله لا فألك]. وتلاحقت الأيام والشهور, وهو يحفر في الصخور. ولما خرج مُجْهداً من الوزارة, لقيته محاولاً تذكيره بما سلف, فلم يزد على التأوه, ولملمة مشاعره المبعثرة, والفرار إلى الأحلام, بعيداً عن منغصات الواقع الأمر.
لقد كنت فيما أثير من تساؤلات, وما أحلم به من تطلعات حيال الوفاء للمتميزين من كفاءات الوطن, كمن يعظ قوماً الله مهلكهم أو معذبهم, وما كففت عن تلك المحاولات اليائسة, معذرة إلى اللائمين, أو تطلعاً إلى تدارك الأمر, قبل فوات الأوان.
ومن السهل أن يُمْنى المتميزون بالتهميش, ولكن الفداحة أن يُفْترى عليهم الكذب, أو أن يصادر حقهم المشروع. وما أكثر ذوي الفضل, الذين لم يُعْرف لهم فضلهم, ومن ثم رضوا من الغنيمة بالإياب.
لقد عرفنا أدق التفاصيل عن شعراء مصر والشام والعراق وأدبائهم, ومفكريهم, وبِشمْنا من تمجيد الأدباء والنقاد, ولم تخف منهم عند أدنانا خافية,
- فمن ذا الذي يجهل “شوقي” و”حافظ”؟
- ومن ذا الذي لا يعرف “العقاد” و”الرافعي” و”طه حسين”؟
- ومن ذا الذي ينكر “نجيب محفوظ” أو “توفيق الحكيم”؟
بل من ذا الذي لا يعرف أدق التفاصيل عن “الرصافي” و”أبي ريشة” و”أبي ماضي”؟.
ولو تردد أحدنا في سرد شيء من سير أولئك الأعلام, لوُصِف بالجهل, واتهم بالعقوق بأدبه وأدبائه. ولو جهل أحدنا أسماء الشعراء في بلاده, أو الأدباء في وطنه, لما سيء بجهله, ذلك أنهم كزامر الحي.
ولو طلب من أحدنا أن يكتب عن عَلَمٍ من الأعلام, لما تردد في استدعاء الأبعدين, ممن شاع ذكرهم, وملأ الأسماع مدحهم. ومع التسليم بأن هذه الخليقة تملأ الرحب, فإننا نخالها تخفى على الناس, ومن ثم لم نحاول التخلي عنها.
وتكريم الراحلين, وإن كان قضاءً لا أداء في وقته , يعد استدراكاً جاء في غير زمنه المناسب, ولكنه أفضل من تواصل التنكر, وأن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي؛
ومما أذكره, وأعجب منه أن [الأدب السعودي] ظل مهمشاً في أروقة الجامعات السعودية. والمناهج تقر دراسة الأدب الحديث, والقائمون عليه يذودون عنه الأدب والأدباء السعوديين, وإذا ذُكِّروا بأدب بلادهم, وُصِفَ المذكِّر بالإقليمية, والعصبية, وضيق العطن. ومرت الأيام وبلابل الدوح يُذاد عن دوحه, فيما هو حلال للطير من كل جنس.
ولما أحست [جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية] - آنذاك - بهذا الغبن, حاولت تدارك الأمر, فوجهت بتدريس هذا الأدب, فلم يقبل بعض المتعاقدين بهذا التوجيه, بل أنكر بعضهم أن يكون هناك أدب سعودي يستحق العناية, وكنت ممن استعين به للنهوض بهذه المهمة, لأنني ربما كنت الوحيد - آنذاك - الذي يحمل شهادة [الماجستير] عن الأدب السعودي في القصيم, وبدأت التجربة على استحياء, وتردد, وواكب ذلك توجيه طلاب الدراسات العليا إلى أدب البلاد وأدبائه. ومع كل تلك الجهود, ظلت الدراسات حبيسة الأدراج, والمطبوع منها حبيس المستودعات, وظلت هيمنة الآخر هي سيدة الموقف. لقد طُفنا, ورأينا جهل الآخر بنا, ومعرفتنا به, وعزوفه عنا, واحتفاءنا به, وخلو محافلهم من أدبنا وأُدبائنا, وامتلاء محافلنا بأدق تفاصيلهم, فأسواقنا, ومكتباتنا, ومعارض الكتاب عندنا, وحتى المناهج تفيض بالإبداعات, والأعمال, والدراسات, والسير, وسائر الكتب, وليس متاح لنا في أرضهم مفحص قطاة.
أكتب ما تقرؤون, وأنا أعيش أجواء مفعمة بعبق الوفاء, لرموز, قضوا نَحبهم, وآخرين ينتظرون, وما بدلوا تبديلا.
وتلك من سنن الهدى, عسى أن تكون فاتحة خير, يعود فيه الدوح إلى بلابله, ولحم الثور إلى جحاه.