الاحتقان الطائفي، وعجز النظام في دمشق عن قبول خيارات التغيير، وطبيعته القمعية، والكلفة الدامية لصراع امتد لنحو عامين، وتفتت المعارضة، والضغوط التي تمارسها طهران من أجل استمرار الحرب «حتى آخر سوري»،.. كلها مؤشرات توحي أنه لا يوجد أساس، كما لا توجد أدنى فرصة، لنجاح أي حوار بين النظام في دمشق ومعارضيه.
ولكن، إذا جاز النظر إلى هذه العناصر، من زاوية أخرى، فإنها هي نفسها ستقدم مبررا أشد قوة للبحث عن سبيل للحوار.
الذين يحرصون على وحدة سوريا وتماسكها الكياني، يدركون أن الاحتقان الطائفي يكفي بمفرده ليشكل دافعا للحيلولة دون الغرق في مستنقع لا نهاية له من أعمال القتل والانتقام.
بل وحتى الذين تغلب عليهم نزعات الخوف الطائفية في مواجهة الآخر، يستطيعون أن يروا أنهم لن يكسبوا بلدا قادرا على الحياة، لو أنهم قسموه أو مزقوه فيما بينهم.
ببساطة، لا يوجد أي مقوم اقتصادي يبرر التقسيم. فسوريا إذا تفككت، فإن مصيرها الوحيد هو التفسخ، بدرجة أشد بكثير من كل ما رأيناه حتى الآن.
والتفسخ لن يُبقي لأحد شيئا يمكن التعويل عليه لبناء دولة.
إذن، نحن بحاجة إلى دولة تضمن أن تكون لكل مواطنيها على حد سواء. بل وأن تضع الشروخ الطائفية جانبا. كما أننا بحاجة إلى أن ينظر كل طرف إلى ما يخسره، هو بالذات، إذا ما خسر بقاء الطرف الآخر.
وهذا وضع يتطلب تسويات. والتسويات لا تتحقق من دون حوار وتنازلات.
لقد تحارب اللبنانيون طويلا، ولكنهم عادوا ليجدوا أنفسهم بحاجة إلى «اتفاق الطائف» (عام 1989) ليجددوا سبل التعايش فيما بينهم. وقد يتحارب السوريون طويلا فلا يجدون إلا «الطائف» (بالمعنى الرمزي للكلمة) لكي تستر عليهم تنازعهم.
نعم هناك اختلافات بين النموذجين. فاللبنانيون أرسوا حوارهم على «صيغة» لتقاسم النفوذ، مألوفةٍ بينهم، بينما لا يبدو في وارد أحد اليوم أن يبحث عن «صيغة سورية» بمعناها اللبناني.
ولكن إذا توصلنا إلى أن وحدة البلاد شرط مطلوب لحياة كل طرف، فالحقيقة التي لا مفر من قبولها، هي أن الحوار لن يكون، بحد ذاته، تنازلا من أحد لأحد، وإنما حاجة ماسة للمتنازعين أنفسهم، كل على انفراد.
هناك شيء آخر لا مفر منه أيضا. هو أن «جمهورية القمع» التي أسندت نصف قرن من الاستبداد لم يعد بوسعها أن تعيش أكثر.
الاعمال الوحشية التي تمارسها هذه «الجمهورية»، تبدو بحد ذاتها ، تعبيرا عن اليأس، واعترافا ضمنيا بالفشل التام.
هذه «الجمهورية» يجب أن تزول. وأصحابها يرون أن صلاحيتها انتهت، وأنها تجاوزت «عمرها الافتراضي» بأشواط. وهم يوغلون بالقسوة لأنهم يعرفون أنه لا أمل لهم في بقائها.
أي تغيير، مهما كان طفيفا، سيكون كفيلا بتداعي سلطة الفساد والاستبداد.
يكفي فقط أن تكون هناك سلطة قانون، حتى لا يعود بوسع هذه «الجمهورية» أن تبقى ساعتين.
ما الذي يمنع إذن من خوض حوار، ليس من أجل أي شيء، بل من أجل أن يكون هناك نظام خاضع لقيم القانون، بدلا من النظام الحالي الذي يفصل القانون على مقاس حذاء كل رجل أمن ومخابرات؟
كم سيبقى من هذا النظام بعد يومين من معرفة الناس انهم تحرروا من سلطة التعسف والقهر والاضطهاد؟
كم سيبقى من هذا النظام إذا اتيح للناس، فقط، أن يسخروا من شعاراته الجوفاء؟
كم سيبقى منه إذا انتهى الناس إلى أنهم قادرون على أن يقولوا رأيهم فيه؟
وكم سيبقى منه إذا احتكموا إلى صناديق الاقتراع؟
نعم، ربما تراهن سلطة الاستبداد على الحوار كسبيل للمراوغة وكسب الوقت، ولكن حوارا من أجل إقامة دولة قانون، بضمانات عربية ودولية، سيكون كفيلا بالكشف عن الحقيقة التي يعرفها أهل الاستبداد أنفسهم، وهي أن نظامهم لا وقت لديه ليكسبه.
فهل يوجد أساس للحوار؟
نعم يوجد. ليس لأن الحوار سيكون معجزة سياسية خارقة للعادة، بل لأنه سيجري مع نظام لم يبق له أساس أصلا! وأي تغيير، مهما كان طفيفا، سيكون كفيلا بانهياره.
كاتب وناشر ورئيس تحرير “المتوسط أونلاين”