1- -
منذ أن هَبَّت أكثرية الشعب السوري مطالبة بالحُرِّية من نير تَسلُّط جثم على الصدور أكثر من أربعين عاماً فيها القليل القليل من الإيجابيات والكثير الكثير من السلبيات الفظيعة وحديثي، في كثير من المقالات،
مُركَّز على ما يجري ويُرتكَب في سوريا. ولَعلَّ من أَهمِّ أسباب ذلك أن لسوريا بالذات مكانة خاصة في نفسي لكونها - وأنا من طلبة التاريخ - كانت مركز دولة عظيمة اتَّسعت، بفضل الله ثم بفضل قادتها من بني أمية العظماء، اتِّساعاً كبيراً؛ شرقاً وغرباً، وكانت أَوَّل دولة عُرِّبت فيها الدواوين وسُكَّت العملة باللغة العربية، وظَلَّت الحماسة فيها لهذه اللغة، التي أنزل بها القرآن الكريم، مُتَّقدة حتى الآن، وازدهرت في ظِلِّها حضارة عربية الِّلسان ثَرَّة العطاء في مختلف وجوه الحياة. ولتلك المكانة لها في نفسي لم يكن غريباً أن سَمَّيت عنوان أكبر مجموعة شعرية لي دمشق وقصائد أخرى، وسَمَّيت مجموعة أخرى عُرْس الشَّهباء وقصائد أخرى.
وكان مما قلته في قصيدة دمشق:
دمشقُ يا أَلَق التاريخ هأنذا
قَدِمت إذ لَوَّحت لي منك أَردانُ
قَدِمت أَلثم مَجداً شاده نُجُبٌ
بهم تَشرَّف مَروانٌ وسفيانُ
وأَجتلي فَيلقاً يَمضي فَتتبعُه
فَيالقٌ شاقها للنصر ميدانُ
أَنتِ الحضارة إِشعاعاً ومُنطلقاً
وأنتِ مَنبِتُ أَمجادٍ وبُستانُ
قد قال فيك أَمير الشعرِ قَولتَه
وفي حِماكِ على ما قال برهانُ
“لولا دمشق لما كانت طُليطةٌ
ولا زَهت ببني العَبَّاس بَغدان”
ومما قلته في قصيدة عرس الشهباء:
مُنية الرُّوحِ أَن يكونَ السبيلُ
لِربوعٍ بهن يُشفَى العَليل
ومَغاني الشَّهباءِ دَوحُ فَخارٍ
ظِلُّه مُتعةُ النفوسِ ظَليلُ
لَوحةٌ من رَوائع الفَنِّ فيها
ما إليه نَفْسُ الأَريبِ تَميل
وبها سادة يفيضون نُبلاً
فَضلُهم رائع السمات أَصيل
وصَبَايا من جَنِّة الخُلْد حُورٌ
لِهَوى الرُّوحِ لُطفُها سَلسبيل
يَرتدين العَفَاف ثَوباً قَشيباً
ناسجاه القرآن والإنجيل
إِيهِ.. يا رَوعةَ الدِّيار فُؤادي
في سُويدائِه هَواكِ نَزيل
ها أَنا ذا أَتيتُ مُضرَمَ وَجْدٍ
حَاملي الوُدُّ والغَرامُ الدِّليل
جِئتُ أَهفو لحاضرٍ مُجتَلاه
طَلْعةٌ حُلوةٌ وثَغرٌ جَميلُ
و قديمٍ كساه ثَوبَ جَمالٍ
من نَسيج الإبداع مَجدٌ أَثيلُ
فيه تبدو مَعالمٌ نَاطقاتٌ
هُنَّ في هَامةِ العُلا إِكليلُ
فَوقَ ساحاتها مَليكُ القوافي
يُسِكر الكونَ من قوافيه قِيلُ
و مَعينُ البيانِ مِلكُ يَديه
كيفما شاءه يَسيل يَسيلُ
فإذا صَاغَه فَلفظٌ جَميلٌ
في عباراتِه ومَعنىً جَليلُ
مَنْ كَمثلِ الكِنْديِّ إن زَفَّ خُوداً
في دُنَى الشِّعر ما لَهنَّ مَثيلُ؟
وكان ختام تلك القصيدة:
إِيهِ يا رَوعةَ الدِّيارِ ومَهداً
وَصْفُ آياتِ حُسْنه مُستحيلُ
بَهجَتي في حِمِاك عُظْمَى وقَلبي
وَاجفٌ إذ بدا لعيني الرَّحيلُ
ووطن عربي تلك مكانته الخاصة في نفسي لم يكن غريباً؛ وأنا أرى مُتمزِّق الفؤاد ما يرتكب على أرضه من الجرائم الفظيعة بأيدي مُتسلِّطين من أهله برهنوا على أن جرائمهم لا تَقلُّ عن جرائم أعداء أُمَّتنا؛ بل ربما تفوقها بشاعة وفظاعة.. لم يكن غريباً أن كتبت مقالة قبل سنة ونصف السنة عنوانها: “وَيلي عليها ووَيلي من مصيبتها”.
وكان مما قلته في تلك المقالة:
“كم هي شديدة وطأة الألم على نفس من أحب سوريا؛ تاريخاً مجيداً، وقلباً عُروبيًّا في العصر الحديث، كان من عظماء رجاله وأفذاذهم الكواكبي والعَظْمة والقَسَّام، ويراها اليوم والبطش الأعمى الفظيع يُرتكَب فوق ربوعها دون مراعاة لحقوق الإنسان وكرامته؛ ذكراً وأنثى، شيخاً وطفلاً، ويشاهد التهديم جنونيًّا لا يُوفِّر في غَيِّه حتى بيوت الله، ويرى الأفراد من جيش النظام المرتكب للجرائم يرفعون أصابعهم علامة للنصر بعد ارتكابهم تدمير أحياء مدينة سورية؛ وكأنهم قد انتصروا على أَعداء أُمَّتنا من الصهاينة في فلسطين أو في الجولان - أي المرتفعات السورية - التي ترزح تحت نير احتلال أولئك الأعداء منذ عام 1967م”.
وإلى اللقاء في مقالة أخرى لمواصلة الحديث إن شاء الله.