تتميز المملكة باتساع نطاقها الجغرافي، واستقرارها السياسي، وبتقسيمها الإداري المنظم، والذي يسمح بإيجاد بيئة تنافسية بين المناطق، لكنها تواجه معضلة المركزية في التحكم في القرارات والمشاريع، كما تكشف عنها مسؤولية الوزير المركزية في إدارة خدمات ومشاريع في مناطق مترامية الأطراف. وربما كان أسلوب التحكم المركزي مفيداً في ماضي الأيام، لكن في العصر الحاضر لم يعد للمركزية المطلقة مكان، ولابد من اتخاذ الإجراءات التي تنقل البلاد من السلطة الإدارية المطلقة إلى توزيع المهمات والمسؤوليات إلى المناطق المختلفة، وإلى الاتجاه نحو خلق بيئة تنموية تنافسية بين المناطق.
صورة المركزية الحالية تتمثل في اختزال السلطة الإدارية جميعها في يد الوزراء في العاصمة، حيث يشرف الوزراء على جميع الخدمات والمشاريع العامة، أي لا يكون هناك مجال لعمل المجالس البلدية المحلية أو المناطقية في مهمة التخطيط والإشراف على التنمية في المنطقة، بل إن صورتهم الحالية لا تسمح لهم حتى بالمشاركة في إدارة شئون منطقتهم الخدمية والتنموية، بينما من الأفضل والأصلح أن تُمنح المناطق بعض السلطات التي تجعل منها قادرة على دفع التنمية في المنطقة. ومن أجل أن يكون الانقتال مواكباً للعصر يستدعي الأمر أن يتم تطوير النظام الإداري في المنطقة، بحيث يكون لمجلس المنطقة المنتخب مسؤوليات إدارية ورقابية، ولأميرها ومحافظها مهمة تنفيذية في دفع التنمية، وعلى المنوال نفسه يفترض أن يتمتع المجلس البلدي المنتخب بمسؤولية تنظيم الخدمات في المنطقة.
أثبتت التجارب الإنسانية في الإدارة المحلية نجاح اللامركزية في الإدارة، ويظهر ذلك في كثير من الأمثلة سواء في الغرب أو الشرق. وما أريد الوصول إليه أن نمنح المناطق بعضاً من المسؤولية في إدارة شئونها الداخلية، وفي تنظيم مصالح سكانها، وبالتالي فتح الأبواب أمام قصص نجاح جديدة ومتعددة وتنافسية أمام المعضلات المزمنة التي يواجهها الوطن، وأعني بذلك البطالة والتعليم والصحة وثقافة السياحة المتدنية والتنظيم المروري. وتظل للإدارة المركزية القرارات الكبرى، وتبقى الرقابة العامة على العمل المناطقي لها نفوذها المستقل، ولها فعاليتها في عدم المساس بالمصالح الوطنية الكبرى.
المركزية المطلقة تقتل روح الابتكار وتبطل عنصر المبادرة، وهو نظام يكون مآله الجمود وصعوبة اتخاذ القرارات بسبب اتساع حجم العمل الداخلي والتنموي، مما يجعل من المهمة مستحيلة، وذلك لانشغال القيادات العليا بالنواحي الإستراتيجية والسياسات العامة، كذلك تؤدي المركزية أحياناً إلى اتخاذ قرارات غير ملائمة لطبيعة وظروف الأقاليم والمحافظات، ويؤدي ذلك إلى فشل التنمية في تحقيق أهدافها، كذلك قد تصل المركزية البيروقراطية إلى الشلل التام في إنجاز المعاملات نتيجة للروتين الإداري والتعقيد بسبب كثرة الإدارات وتنوع طبقاتها واختلاف وتضاد مهامها، وبالتالي إلى تراكم القضايا أمام الإدارة المركزية، وتكون النتيجة تأخر البت في صدور قرارات قد تكون عاجلة. ولتدارك هذا العجز أمام كثرة الطلبات تُصبغ الحلول أحياناً لمختلف القضايا بصبغة موحدة، لا تعجل في حلها، ولكن قد تزيدها تعقيداً.
كانت بعض الأنظمة الشمولية في السابق تجد في المركزية المطلقة سلاحاً للتحكم في القرارات والمصالح والشعوب، وقد تستخدم كسلطة ضد من تعتقد أنه يعارض الحزب المركزي، لكن تلك السياسات العقيمة في التاريخ الحديث أدت إلى اهتزاز تلك الأنظمة ثم سقوطها بسبب الفشل التنموي الذريع. وقد يكون عادة بين سطور المركزية مصالح ومحسوبية عالية، مما يجعل من مهمة إصلاحها مستحيلة. وإذا لم تكن المصالح العليا للأوطان في المقدمة، وتسمو فوق أي مصالح أخرى تحدث الكارثة. لذلك من الشفافية أن يتم تنظيم المصالح المحسوبة في إطار منهجي واضح، يخدم المصالح الوطنية واستقرارها، ولا يكون طريقاً سرياً للفساد، أو سلطة قائمة ضد التطور والاقتصاد الوطني. لذلك يجب عدم التأخير في نقل كثير من القرارات إلى المناطق، ثم منحها درجة من الاستقلال في إدارة شؤونها المحلية تحت مظلة رقابية وتشريعية من مجلس المنطقة... ودام عزك يا وطن.