سبق أن كتبت عن كتاب الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي، لكن أجد نفسي اليوم أتوَّقف عند بعض ما نقله عن الفلاسفة، فليس كل ما يقوله الفلاسفة حقًا، كما أن ما قد يراه المرء حقًا في موضع قد لا يكون كذلك في موضع آخر، والحكم على الشيء جزءٌ من تصوره.
لقد ساهم الفلاسفة في رسم الكثير من القواعد التي يسير عليها البشر لكنهم أيْضًا جاوزوا الحدود، وأرادوا اقتحام ما فوق العقل البشري وعند ذلك خرجوا عن المنطق؛ لأنهم حاولوا الوثوب على ما فوق المنطق فسقطوا في فخ فلسفتهم.
لكننا هنا لا نتحدث عنهم إلا فيما نقله أبو حيان في كتابه المذكور، بل وفي صفحة منه تحدث فيها عن الصداقة والصديق، فقد نقل عن ديوجانس قوله: ما الذي ينبغي للمرء أن يتحفظ منه؟ قال: من حسد إخوانه، ومكر أعدائه.
وحقيقة الأمر أن مكر الأعداء هو الذي يجب التحفظ منه؛ لأن العدو الماكر، لا يترك سبيلاً مِن الشرِّ إلا سلكه، ولا طريقًا للضرر إلا طرقه. يبحث عن المثالب، ويتغافل عن المحاسن لا سيما الجهال منهم، وقليلو السمت، أما حسد الإخوان، فإنّه وأن يحدث يكون على سمت واستحياء، وغالبًا ما يكون غيرة لا تصل إلى الأضرار، وإنما الاستمتاع بزوال نعمة المحسود والعياذ بالله.
ومما نقله الموحدي قول أفلاطون: الأشرار يتتبعون مساوئ الناس، ويتركون محاسنهم، كما يتتبع الذباب المواضع الفاسدة من الجسد، ويترك الصحيح منها. والحق أنَّه قد أصاب فيما ذهب إليه، لكنَّها جبلة بشرية جاء الإسلام ليهذب النَّفْس ويبعد عنها هذه الشوائب وكُلُّنا يعرف الحديث الشريف المتعلّق بالغيبة والبهتان إن كان فيه أو ليس فيه، لكنَّها طبائع الأشرار.
وقيل لأبارينوس: مال فلان أعرض عنك؟ فقال: ما أشبه إقباله بإدبار، ومن زعم أنَّه يضرني فلينفع نفسه، ولا شكَّ أن بعضًا من النَّاس لا فرق بين إقبالهم وإدبارهم، فذلك سواء، فمنهم ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع. وقيل لشيفابون: “من صديقك؟ قال: (الذي إذا صرت إليه في حاجة وجدته أشد مسارعة إلى قضائها مني إلى طلبها).
هذا قول جميل رائع، لكن من أقسى المواقف على المرء أن يصير إليك صاحبك في حاجة لا تستطيع قضاءها؛ لأنّها ليس في مقدورك كما أن من هي بيده قد لا يكون أهلاً للطلب.
وقال: إنكساغور: (إن الشدائد التي تنزل بالمرء محنة إخوانه) هذه محنة للإخوان لأن الأخ الصادق الصدوق هو ذلك الصديق الذي يقف معك وقت محنتك، أما إخوان الرَّخاء فهم كثير، وحديثهم ممتع وتنطعهم بما يفعلون ويقدرون أكثر من أن يطاق، لكنهم عند الحاجة يختفون ولا يوجد لهم أثر.
وقال أفلاطون: لا ينبغي للعاقل أن يَتمَّنى لصديقه الغني، فيزهي عليه، ولكن يتمنى له أن يساويه في الحال، هل هذه حقيقة؟ ربَّما تكون عند بعض من الناس، لكن ليس بالضرورة أنّها حق عند كل الناس، فهناك من يسعد بأن يكون صديقه أحسن منه حالاً لأن ما زاد عند صديقه لا بُدَّ أن يجنى منه ثمرة، كما أن من السعادة أن تجد لدى من تحب أكثر مما لديك، إذا لم يكن بمقدورك أن تكون مثله.
قال أفلاطون: “صديق كل امرئ عمله، وعدوه جهله” وأقول: ليس بالضرورة أن يقود العقل إلى ما ينفع لأن بعض من لديهم عقل وذكاء لا يستخدمونه في الخير يكون شرًا عليهم، وكذلك من كان لديه قسط من العلِمَ لا يستخدمه فيما ينفع ويرضى الله فقد باء بالخسران المبين.
قال سقراط: (لن تكون كاملاً حتَّى يأمنك عدوك، فكيف بك إذا كنت لا يأمنك صديقك) وأقول: عندما يأمنك عدوك فقد بلغت الكمال في الرقي لأنك لا تستطيع أن تغدر بعدوك، أو أن تقول فيه ما ليس فيه، إما ذا وصل الأمر إلى ألا يأمنك صديقك فقد بلغت من قلّة المروءة منتهاها. وحسب المرء أن يأمن صديقه شره، فكيف بأن ترقى به أخلاقه الكريمة، إلى أن يأمن غائلته عدوه، فهذا منتهى النبل الأخلاقي، لعلَّنا نجد في زماننا هذا من يحمل مثل هذه الصفات، ولو كان كذلك، لكان مقامنا في هذه الدُّنْيَا أسمى وأجمل مما نحن فيه.
هذا بعض مما نقله أبو حيان التوحيدي، فلعل فيه من العبر، ما يجعلنا نُغيِّر من مسلكنا ولو بقدر نقطة في بحر.