منذ أيام احتدم النقاش بين طرفين حول أحقية الدولة (أي دولة) في احتجاز أشخاص من مواطنيها تمثل حريتهم خطراً للمجتمع، فطرف يرى أن الدولة مسؤولة عن حماية المجتمع من أي مضر بسلامته أو مصالحه، ولها صلاحية احتجاز من يظن بضرره دون أن يكون قد اقترف جرماً يعاقب عليه القانون من باب التحوط ولمدة تنتهي بالقناعة أنه لم يعد يمثل ضرراً محتملاً للمجتمع، والطرف الآخر يرى أن الإنسان حر في الأصل ولا يجوز نزع حريته إلا إذا اقترف فعلاً يوجب عقابه، ولابد أن يسبق ذلك أتهام وحكم، أما الاحتجاز من باب التحوط فلابد أن يكون لوقت قصير حتى تجد الدولة وسيلة أخرى تمنع المحتجز من الإضرار بأمن أو مصالح المجتمع لا تشمل تقييد الحرية. هذا النقاش بات اليوم يدور في كل منتدى من شرق الدنيا إلى غربها، وبات هناك قلق من الحرية وعليها، والسبب أن الإنسان الفرد أصبح ممكناً من إحداث ضرر عارم لو أراد، وإرادته معلقة بمؤثرات متعددة عقدية وسيكولوجية وفلسفية.
في الماضي كان الفرد محدود القدرة على إحداث ضرر متعد، فقد لا يصل ضرره إلى أكثر من محيطه من الناس، والفرد الذي يمثل خطراً على محيطه سرعان ما ينتهي به الأمر للموت نتيجة للتكالب الاجتماعي وسيادة مفاهيم كانت ترى التصفية الجسدية لمن يمثل خطراً اجتماعياً واجبة حتى ولو كان فاقد الإدراك. نحن اليوم نعاصر تقدماً هائلاً في المعرفة ووسائل الوصول إليها، ونعاصر انتشار مفاهيم جديدة حول التغيير الاجتماعي، ونعاصر أطماعاً فردية وجماعية ونعاصر تقدم في الاتصال والقدرة على التعبير، هذه السمات لزمننا الحاضر خلقت تحديات من نوع جديد، فلم يعد الفرد ذلك الكائن محدود القدرة، لقد بات الفرد قادرًا على إحداث تغيير مدمر في أي مكان من العالم وهو في قعر داره، والتأثير الذي يمكن أن يحدثه الفرد أصبح هائلاً وربما يغير مستقبل أمة برمتها. لذا فالمنطق يقول طالما تطورت قدرة الفرد على الإضرار بمجتمعه فمن الواجب أن تتغير مفاهيم المجتمع تجاه حماية ذاته من أضرار الفرد.
القلق الذي بات يشغل العقول حول الحريات التي يجب أن تكفل لأفراد باتوا يشكلون تهديداً لأمن ومصالح مجتمعاتهم، أصبح ملحاً بعد كارثة سبتمبر 2001م، عندما قرر أفراد تنظيم عمل إرهابي أحدث ضرراً هائلاً بأمم وليس مجتمعات فقط، وأصبح هناك فكر يلح بإيجاد وسيلة لكبح ضرر مثل هؤلاء، وخصوصاً أن الدوافع التي جعلتهم يرتكبون فعلتهم هي دوافع عقدية وسيكولوجية، وهي قائمة لدى عدد كبير ممن يغريهم مثل هذه الفعل لو توفرت القدرة لهم. هذا القلق أحدث أزمة قانونية تتمثل في عدم وجود قوانين تجيز الاحتجاز غير المحدد المدة، وبات هناك مطلب أن توجد مثل هذه القوانين. وما زال النقاش محتدماً حول من يقدس حرية الفرد ومن يقلقه احتمال الضرر الهائل من ممتورين فكرياً يتمتعون بحرية الإضرار بالمجتمع.
أنا ممن ينتمي لفكر عملي يقوم على أن من يثبت تصريحه أو سلوكه سلوكاً يثير الشك العاقل بإمكانية إضراره بأمن ومصالح المجتمع، فعلى السلطة احتجازه تحوطاً، حتى ينجلي الشك بضرره فإن لم ينجل الشك به أو داوم على التعبير عن أمكانية ضرره فليستمر احتجازه لو أمضى العمر كله محتجزاً، ومع ذلك لابد أن تكفل حرية التصريح والتعبير عما يريد أي فرد بشرط أن لا يكون تعبيره حاملاً التأليب او التحريض او الكراهية لفئة من المجتمع، ومن يتعدى ذلك فهو مضر بالمجتمع ويجب أن يحتجز، احتجازاً لضرره.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail