يظنّ كثير من الناس أنَّ الكتابة ليست سوى مَجْلبة ٍ للهموم، وأنّ مقتل الرجل بين (إصبعيه) - هم يقولون (بين فكيه!) - وهو إرث من العصر الجاهلي يوم كان الرجل يُذْبح بسبب قصيدة هجاء، أو قول سوء قاله في مجلس عامر وقام بنقله للمعنيّ أحد حضور المجلس الذين يهوون عمل الجاسوس ويفتخرون به. ومن يكره الكتابة هو من يكره الصدق.
فمهما قلنا إنّ ثمة عدداً هائلاً من الكتّاب (الكذابين) إلاّ أنه لا أحد يمكنه تناسي أنّ القول الذي يثير الآخرين مكتوباً هو بمنزلة وثيقة غير قابلة للنكران. من يرى أن الكاتب كمثل الذي يضع هو القيود بيديه في يديه مستسلماً لقدره وله سابق خبرة في المصائر الشنيعة التي طالت للأسف رجالاً على مرّ التاريخ إما سهواً وهذا نادر، وإما إمعاناً في كمّ أفواه الناس ومصادرتهم وسلب أثمن شيء لدى الإنسان وهو ضميره، وصوت عقله وقلبه المستمدين قوّتهما من الذين يتحدث باسمهم أو يدافع عنهم وقد سُلبوا ومُرّغوا في التراب. وتلك مهمة الكتّاب. ونحن نضطر للصمت حين ينهض لمحاكمتنا إنسان عادي - أي أنّ علاقته بالكتابة والقراءة هي علاقة مناسبات كالولائم! - قائلاً ( ما كتبت ذلك اليوم ناقص) ويكمل (لو أنك ذكرت الأسباب الحقيقية بدلاً من التبريرات الزائفة) فلا تملك سوى صمت الحِمْلان!
وإذا التفتنا إلى الزمن العربي من (موقف) الرثاء. لم نكن نحن السبب. بل إنّ لغتنا وخطابنا متطرفان. ليس من عربيّ يمكنك أن تصفه بالتريث. ولا حتى بضبط النفس. فالعربي سليل الشاعر (عمرو بن كلثوم) الذي زعم في مطوّلة طنانة أنّه حين يرزق أحد من قبيلته وعصبته صبياً فإنّ الجبّارين (يخرّون) له (ساجدينا)!. وهذه تشبه مقولة الشاعر العربي التي أطلقها مدويّة يوم قال إنهم - قومه - أناس لا يعرفون ولا يرتضون بالوساطة إن هم أصرّوا أن لهم (الصدرَ دون العالمين أو القبر)!! لذا أشعر بالخجل وتخيّم عليّ (الخيبة) كلما تأملت حال وطننا العربي، والذي نعرف من هو الذي لا ترتاح له عين ما لم يشاهد هذا (الشرق الأوسط) وهو أطلال تحوم فوقها الغربان. وتفرّخ في بقايا أشجارها المعمرة الهداهد والنسور. وما كان أغنانا عن هزيمة مثل هزيمة حزيران 67 م . لأنّ الحرب عام 67 م لو تأجّلت سنوات قليلة لما كان يمكن للكيان الصهيوني رغم وقوف قوى الشرّ والعدوان غير المشروط خلفه، أن يسرق قطعة من مكنة طائرة، لا أن يسحق أربعمئة طائرة رابضة بانتظار الأمر الذي لم يُقَلْ ولن يقال ما دمنا في دوّامة ( أيّنا الأقوى ؟ ومن منا الأصدق ؟).
نعود للكتابة التي أثارت كلّ هـذي الشجون. فليس كل ما يُكْتَب كتابة!. إنه تعبير سيئ عن معنى الكتابة ورمزيتها أكثر ما يُفرض علينا قراءته. فالكتابة الحقيقية هي التي تمثل الوجه الحقيقي للإنسان. بدون أية إضافات لتحسينه. وكم يوماً أطلّت علينا هذي الوجوه وجعلتنا نكره الكتابة ومن يكتبون!. وعندما تصبح الكتابة مطيّة مطواعة لا تملك حتى شرف الرفض لبعض القوم الذين يريدون أن يكون لهم نصيب الأسـد من حفلات التكريم الفارغة من المعنى والمميزة بشايها السيئ وزحام مقاعدها مما يعطي الانطباع بأن ليس بينها وبين الله حجاب!. من يكتب هو من يملك ذاكرة للنسيان. هو المؤرّخ العام للعصور: هزائمها، وانتصاراتها، وانكساراتها، ومآتمها. وهو في الشعر رجل الزمان وليس بعيداً منا بيت أبي الطيب الضخم
(كفى بكَ داءً أنْ ترى الموتَ شافيا
وحسبُ المنايا أنْ يكُنّ أمانيا!)
وتلك لغة سيد شعراء العروبة الذي ووري الثرى قبل أكثر من ألف عام وظلّ صوته مسيطراً ومغرياً بتقليده. ظلّ الطائر المحكيّ وظل يبحث عن مجدٍ آخر بجانب مجده الشعري الذي لا يمكن لإنسان أن ينقص منه. لدرجة أنّ قصائده تجري على ألسنتنا اليوم وكأنما قيلت بالأمس.
alhomaidjarallah@gmail.comحائل