في الشوارع القديمة رائحة الناس تنطق بحالها..

تلك الأحياء التي تحتويها، الناس البسطاء هناك..

ضجيج محتمَل..، وعوز مصطَبر..

الفقراء هناك..، الكادحون، المؤتلفون..، المتكيفون..الراضون..، الخائفون..، المطمئنون..، المرضى، البؤساء..، الشامخون، المؤثرون... المحبون،

من يستنشق غبار العربات المارقة بلا تذمر..، من يلتحم بعرق الحر بلا تأفف..،

هناك الحميمون مع رث الملابس في الصيف بلا طمع..، وأسمالها البالية في الشتاء بلا حلم..

هناك من يكتب الفقر سطورُه على جلودهم..

ويزرع البؤسُ في عيونهم شتلاته..

الشوارع المتاخمة فيها البيوت على أنقاضها..

كلما مررت بها وجدتهم يتحركون..، نوافذهم مشرعة، أبوابهم مولعة...

كل ركن في الحارات الشعبية ينضوي على روايات الإنسان، ..وما أثراها....!!

يؤمها خطفة المتنزهون في صفحة التراث..!

ويعبر بها اللاقطون للوحات الدهشة..،

ويقصدها المولعون بتسجيل الأحداث..

أو المراقبون ظنا في انفلاتة النوايا..

بينما هناك قصة اليوم، ممتدا إليها الأمس..

هناك، أصالة الذين تخلصوا من رثهم..، وطالت بهم أقدامهم..، وتطهروا منها بماء النيون..، وبوميض الإشارات..، وبسطوة الرخام..، وبأرقام البنوك..، وببطاقات الصرافة..!!

لكن قدرة الشوارع القديمة، نافذةٌ في الجوارح..، وفي مكامن الكمون..،

في ذاكرة يقظة لا تزال تفتح أوراقها لتسجل ما بقى من النخوة، والأخوة، والعطاء، والصفاء..، والإيثار..، والصبر..، و الكفاح..

هناك الإنسان، الإنسان..

وجملةٌ باقية لا تغص بها إلا الحلوق الفاقدة للحب..، والإيثار..، والتواضع..

بكل زخم مكانه..، وضجيجه..، وأغبرته..، وعوزه..، ويسر حاله..، وتواضع مظهره..، لكنه يتطهر كل فجر.. وله ثروة مكتنفه صدره الشاسع بالرضاء....!

هناك الشارع والبيت والحي كله... والإنسان فيها..

تلك الأمكنة بعامريها، تمسح على جباهها بماء اليقين..، وتلف آلامها في شفيف أكمام ابتسامات الرضاء..

نظيفة في هدوء الخير، نقية في جلال صمت الفضيلة..

مع أن الناس التي كبرت عليها تهابها، وتخشى خفاياها..

الأماكن القديمة، المتهالكة هناك تنضوي بمن فيها على قيم كثيرة طوتها الطرق، والتهمتها الأضواء ودثرتها الناطحات وقويت عليها الأرصدة مختلفة الخانات في حياة البشر..

هناك:

لطعم «البليلة» لذة غريبة عميقة...

للعبة الطفل المغبرة، المتدلية على الحبال على مشارف الدكاكين هيمنة الوجدان..

للون العصير امتداد لثمرة الجوافة المطلة من جذع التحم بالثرى..

وللجبهات المتغضنة حروف الحكايات التي لم ينم عنها القمر أبدا..

ولا غربت عنها الشمس مطلقا..

ولا غفلت عنها النسائم الخفية في عروق المدن البتة..

هذه الأماكن بمن فيها قيمة تنتظر أوبة الناس إليها..!

أوبة الراغبين في الحلم، وفي التطهر، والتطهير..!!