مصرُ..التي نُحبُّها ربمّا أكثَرَ مما تحبُّ هي نيلهَا الخالدَ أو يُحبُّها هو! هذه الـ(مِصْرُ) العظيمةُ، تَاريخاً وشعباً ونِضَالاً، تعيشُ اليومَ مخَاضاً سياسيّاً واجتماعيّاً خطيرَ المنْعطَفَات، متَعَدّدَ الاتّجَاهَاتِ والتوجُّهَاتِ، وقلوُبنا من أجل ذلك قَلقةٌ خَوْفاً على مِصْرُ من عَواصف الزَّمن..
وعَواقِبَ ما هو كائِنٌ الآنَ وما يُمكِنَ أن يَكونَ غداً!
***
لقد بدأ (الطوفان) السياسيُ في مِصْرُ فجأةً يوم قرَّر إنسَانُها العَاديُّ (الهجرةَ) من زِنْزَانَةِ الصَّمتِ إلى الشَّارعِ بالآلافِ..
يَبُثُّ بأعْلىَ صَوتِه ما في صَدْرِه، وظنَّ الناسُ يومئذٍ، كما ظَنَنْتُ أنا، أنَّ ما حَدَث لا يعدُو أن يكونَ تعْبِيراً عن حِرَاكٍ شعبيّ حر يُمَارسُ بأسلوبٍ سلميَّ وحضَاريَّ معاً، هَدفُه الأولُ والأخيرُ إيصالُ رَسَالةٍ ما إلى مَن يُرادُ أن تَبْلغَه، وأنَّه ترجمةٌ نَقِيَّةٌ لما يجَيِشُ في خَاطِره من آلامٍ وآمَال، وكان العُقَلاءُ في كلَّ مكَان يتَمنَّوْن أن يَبْقَى ذلك الحراكُ سَلميّاً وسويّاً، وأن يَبْقىَ السّلوكُ المصاحبُ له عاقلاً وإنسانياً!
***
وفَجْأةً..
وبلا سَابِق إنْذَار، خرجت (بعضُ) موَاكبِ الغَضَب عن المسَارِ السَّلميَّ في التَّظاهُرِ، واستقبلت الميادينُ والشوارعِ وساحات بعض المساجد طَوَابيرَ من الوُحُوشِ البشرية تريدُ أن تُقْصِي مُنْجَزاتِ الإنسانِ المصْريَّ ومكاسبَه نهْباً وحرقاً وتكْسِيراً وتدْميِراً..
فيمَا أخذتْ الجمُوعُ الأُخْرى التي لا علاقة لها بغَوْغائِيّةِ العُنْفِ والعَبَثِ تَلْتَمِسُ (النجاةَ) فِرَاراً من عصَاباتِ اللّيلِ التي اجتاح أفرادُها الشوارعَ تحت غَطَاء الاحْتجِاج! أنْقلَبَ جزءٌ من (موجة الغضب) إلى حِمَمٍ من جَحِيمِ العَبَثِ بالإعمَار والأموال والأرزاق، بل وإزْهاقِ الأرْواحِِ البَريئةِ!
***
وبعد..،
فمَا مِن عَاقلٍ في الأرضِ يُرضِيه ما شَهدتْهُ أرضُ الكِنَانةِ العزيزةِ من أصْنَافِ التَّدميرِ والعبَثِ بمُنْجَزاتِ الإنسانِ المصري وبُنْيتِه الحضاريةِ، وتشْويهِ الحِرَاكِ الإنسَانيّ الذي حَاولَ من خلاله الآلافُ إيصَالَ النَّداَءِ إلى مَنْ يهمُّه الأمرُ في البلاد، طلباً للتَّغيْيرِ نَحْوَ ما هو أصْلح، ولكن، ولسبب يجهله الكثيرون مثلي، (اختُطِفَ) الحراكُ الإنساني ببراءته وعفويته، لتحوّلَه (الأجندا) الخفيةُ إلى ما يشبه (الحرب الأهلية) بلا هدف ولا غاية سوى التدمير، وتحولت شوارع كثير من المدن المصرية إلى ساحات من الشغب الضاري المدجج بالحقد والرغبة في الانتقام ثأْراً أو (تصفية حساب)! اللهم احم مصرَ وأهلهَا من فوضى العبث وعبث الفوضى بدءاً بانتهاك الحريات وانتهاءاً بإراقة الدماء البريئة بلا حساب ولا عقاب!
***
خُلوة حلم:
سُئلت مرة: بم تحلم الآن وأنت تدنو من بوابة السبعين: فقلت:
أحلمُ الآن وأحلمُ كل حين بعالم (مفرَّغ) من الحَرْب، (مفعم) بالحُبَّ، (نقيٍّ) من الإثْرة، (غنيٍّ) بالإِيثَار! عالم يعشقُ حُريةَ الإنسَانِ وكرامتَه ومواهبَه، ويُبْدِعُ في ردْمِ فَجَواتِ الفَقْرِ والجَهْلِ والمرَضِ بين أطيافه!
***
وأستشهد على بعض ما أقول بشيءً من (أطْلاَل) طُفُولتي، فقد كان أغْربُ ما فيها أنّني لم أحْلمْ يوماً خِلاَلها بأيًّ مما تحَقَّقَ لي اليوم، بفْضَلٍ من الله، سواءً في الشأنِ الشَّخصيَّ أو العَامِ، والسَّببُ في ذلك أن مسَاحةً هامةً من فَجْر طُفُولتِي كان يَكْسُوها جليدُ الحرْمان من حنَان الوالديْن! كنتُ أحْلُمُ آنئذٍ أنْ أنْعُمَ كَبِيراً بما أفْتَقْدتُهُ صغيراً، بَدْءاً بالغِذِاء ذي السُّعْراتِ الغنيةِ بالحَياة، وانتهاءاً برَّداءِ يستر آدميّتِي، وينصف كرامتي!
***
أخيراً..
أقول لكل من يقف في طابور الأحلام:
لا تغْلُ في مطاردة حلم تعلم يقيناً أنك قد لا تبلغه، فإذا بلغت في جهدك وجهادك لبلوغه جدار المستحيل، فأنبذه عنك قبل أن يتحول إلى نصل يغتال فيك إرادة التحدّي بحثاً عن بديل يمنحك الحب والحياة!