كان همي الأول، عندما اعتزمت تلبية دعوة الأستاذ الدكتور محمد بن علي آل هيازع - مدير جامعة جازان - لحضور (حفل افتتاح فعاليات الموسم الثقافي السادس للجامعة، ومعرضها الثالث للكتاب).. إلى جانب متابعة تفاصيل ذلك اللقاء الافتتاحي لأمير المنطقة مع شباب وشابات الجامعة..
أن أعرف ماذا تم إنجازه من مشروع بناء المدينة الجامعية العملاق لـ(الجامعة)، وأن أرى بعيني (الكيفية) التي تم بها إنفاذ ما تم إنفاذه: إن كان على تلك الصورة الجميلة المبهرة التي تكاد لا تصدق، والتي قدمتها (البروشورات) و(المناظير) و(الماكينات) السابقة عن المدينة وحرمها وكلياتها وبوابتها وقناتيها وبحيرتها وبرجها الفريد ذي الثمانية عشر طابقاً.. أم أنه كان تنفيذاً متواضعاً، فقيراً، شاحباً (على ما قُسُم)، أو كيفما اتفق.. كما يقولون (!!) وأن لا علاقة له بتلك (الماكينات) و(المناظير) الخلابة.. التي أدارت رؤوسنا عندما رأيناها، والتي كان هدف تقديمها كالعادة - من قبل الشركات المقاولة - كسب توقيع العقود مع إدارة الجامعة أو وزارة التعليم العالي.. لا أكثر، وكما حدث ويحدث في معظم مشاريعنا رغم مئات الملايين من الريالات التي تُعتمد لها أو (البلايين) منها.. وكما لابد وأن يتكرر حدوثه قياساً على ما تعودناه.. في مشروع حرم المدينة الجامعية لـ(جامعة جازان)..؟!
قرب العاشرة.. من مساء يوم الأحد الماضي.. كانت (الطائرة) قد وصلت بنا إلى سماء مدينة (جيزان)، فبدت بأضواء شوارعها وميادينها وعماراتها الجديدة المنتشرة في شمالها: موحية، مطمئنة.. ومبددة لظنوني السيئة إجمالاً.. وإذا صدق القائلون بأن الكتاب يقرأ من عنوانه، فقد كان (العنوان) الذي طالعتنا به (المدينة).. ونحن في سمائها، بعد واحد وعشرين شهراً أو ستمائة وثلاثين يوماً - كما حسبتها - من زيارتي الأولى لها: مبهجاً مبشراً واعداً، أما أهلها وناسها.. الذين عرفتهم قبل سنين طويلة من زيارتي لها: خلقاً ووفاءً وصدقاً وحميمية.. فقد ظلوا على (نموذجيتهم) تلك التي عرفتها فيهم وعشتها وسعدت بها مع عدد كبير منهم.. فكان من حسن حظي أن ترفدني زيارتي السابقة - وهذه اللاحقة - بصداقات أعداد أخرى منهم.
في الطريق إلى الفندق.. كنت أسأل صحبتي من شباب العلاقات العامة بـ(جامعة جازان).. إن كان أحدهم يذكر ما قاله مؤرخ جازان الأشهر والأكبر المرحوم الأستاذ محمد أحمد العقيلي - صاحب المخلاف السليماني - في صحة اسم المنطقة أو المدينة: أهو (جازان) أم جيزان..؟
فقال أحدهم: الاثنان.. ولكن (جازان) هو اسم المنطقة.. أما (جيزان) فهو اسم المدينة..؟
- إذن.. عِمِ مساءً يا (جيزان).
في العاشرة من صباح اليوم التالي - الاثنين - كنا نأخذ طريقنا مع صحبة من الأصدقاء والزملاء إلى (قاعة الاحتفالات الكبرى).. بمقر الجامعة القديم.. الملاصق لـ(المكتبة)، والتي ستصبح (قديمة) هي الأخرى عند الانتقال بعد شهور إلى مقر جامعة جازان الجديد، لتطل على البحر.. كما هي الحال التي ستكون عليها (قاعة الاحتفالات) و(المركز الترفيهي) و(برج) الإدارة العليا للجامعة وعماداتها ذي الثمانية عشر طابقاً، والذي ربما انفردت به (جامعة جازان) عن بقية جامعات المملكة، فلست أعرف أن لأي جامعة من جامعاتنا.. برجاً لإدارتها بهذا الارتفاع، وبهذا الموقع البحري الفريد، وبهذا الجمال والرشاقة في تصميمه.. والذي تطابق (ماكيته) أو منظوره مع واقعه كما رأيت فيما بعد.
كانت باحة قاعة الاحتفالات.. تغص بـ(الطالبات) على جانب.. وبـ(الطلبة) على الجانب الآخر، بينما كان داخل القاعة الضخم.. يطفح بحضوره من الضيوف والأساتذة والمسؤولين والطلبة والطالبات.. فهذا هو يومهم الذي سيحاورون فيه أمير المنطقة المحبوب (محمد بن ناصر بن عبدالعزيز). فمن يمنعهم عنه..؟ لتضج القاعة بالتصفيق ترحيباً بقدومه.. بعد أن افتتح معرض الكتاب، وقدم إلى القاعة.. ليبدأ (الحفل) بالسلام الملكي الذي شارك في إنشاده حضور القاعة جميعهم، فالقرآن الكريم، فكلمة الطلبة التي ألقاها نيابة عنهم الطالب (عبدالرحمن إدريس) من كلية الهندسة، والطالبة (إيمان الحازمي) من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فقصيدة شعرية ألقتها الطالبة (ابتسام مدخلي) من كلية الطب، فكلمة للطالب (حسن عصام خواجي) من كلية الهندسة.. والذي أثنى على إلقائه أحد الحاضرين إلى جواري قائلاً: إنه مشروع مذيع.. حقاً.
فثنيت عليه.. قائلاً: وأحسب أن هناك عشرات مثله.. من أصحاب المواهب بين هؤلاء الستين ألف طالب وطالبة، ليس في الإذاعة وحدها.. بل وفي الأدب والشعر والمسرح والرواية والموسيقى والسينما والرياضة بمجالاتها الفردية والجماعية المختلفة. فهؤلاء هم المستقبل وكنوزه.
ثم ألقى الأمير محمد محاضرته.. التي كانت بحق إطلالة بانورامية عريضة على مشاريع (منطقة جازان).. ما أحوج الحاضرين إليها وإلى تفاصيلها، بعد أن حظيت ميزانيتها لهذا العام بسبعة مليارات ريال.. موزعة على كافة مشاريع إداراتها الخدمية، وما أعظمها وأهمها لـ(جازان) وأبنائها وحياتهم.. إن تحققت (!!) ولم يغتالها (دراكتر) البيروقراطية وتصبح نسياً منسياً!! وقد استهلها بـ(الثناء) على الجامعة، وما احتلته من مكانة مرموقة بين نظيراتها في المملكة.. وما حققته من امتدادات وإنجازات خارج حدود الوطن، واختتمها بالحديث عن اعتزازه بالوقوف على منبرها في هذه المناسبة (التي تحمل لنا في كل عام موسماً محملاً بالفعل الوطني والعمل الاجتماعي الثقافي.. المتميز والمدهش).. وهو يفجر بينهما (إعلانه) عن إنشاء (مجلس لشباب منطقة جازان) من طلبة وطالبات الجامعة والمعاهد والثانويات ليشارك في صناعة القرارات التي تتعلق بقضاياهم، ويتبنى اقتراحاتهم الملبية لاحتياجاتهم.. وإن تجاوزت تطلعاتهم ذلك لما هو أكبر وأبعد، لتضج القاعة ثانية بالتصفيق.. تأييداً لقراره وترحيباً به. لتبدأ مداخلات الحاضرين.. والتي افتتحها الصديق العزيز الأستاذ قينان الغامدي بالحديث عن مدى إمكانية مشاركة شباب وشابات المنطقة في تنفيذ هذه المشاريع - التي تحدث عنها سموه - بدقة وإتقان، إذ إنه (لا تنقصنا الأموال والمشاريع.. ولكن ما ينقصنا هو الإدارة الضامنة لتنفيذها بالدقة والجودة التي نفذت بها مشاريع جامعة جازان) كما قال، ثم أعقبه الدكتور محسن بن فارس الحازمي - عضو مجلس الشورى - مطالباً بـ(تفعيل دور الجمعيات، والشراكة مع المواطن بوصفه الرافد الأول في مجموع اللجان).. لتتابع مداخلات الطلبة والطالبات وأسئلتهم.. وردود الأمير عليها بتواضع وثقة وشفافية دون عنعنات أو ادعاءات مما تعودناه وسئمناه!!
لقد سعدت - حقاً- بالحضور الصحفي المتميِّز الذي تنادى لتغطية هذا (الافتتاح), إلا أنه لم يخطر ببالي أنه سيتضمن توقيع صحيفتنا (الجزيرة) على اتفاقية مع (الجامعة) لإنشاء (كرسي) بها: للأبحاث والدراسات الصحفية.. تقوم (المؤسسة) بـ(تمويل) دراساته وندواته وورشه, ولكن يبدو أن رئيسي مجلس (الإدارة) و(التحرير).. تكتما خبره عند لقائي بهما.. ليكون إحدى مفاجآت ذلك الافتتاح الذي لا يُنسى, والذي امتد لساعتين مشبعتين.. انسلت صحبتنا بعده إلى (معرض الكتاب), الذي سرنا إليه.. على أقدامنا، فقد كان قريباً من المكتبة - التي ستصبح قديمة.. كما قلت -، ليفاجئني وجوده داخل خيمة كبيرة بيضاء.. وقد نُسِّق داخله وخارجه أجمل تنسيق، فانتظمت ممراته ونوافذ عرضه ولافتات دور النشر فيه، وكان تناسق ألوانه الجميلة والمريحة.. مدعاة لاعتقادي بأن من قاموا على تنسيقه، لابد وأنهم درسوا أو مروا على إحدى مدارس (الإيتيكيت) الفرنسية الشهيرة في (ليون) أو السويسرية في (منترو)، ليلتقي الجميع عند الثالثة عصراً في خيمة بيضاء أخرى لا تقل جمالاً وتنسيقاً ونظافة عن (خيمة المعرض).. في منطقة (الجوري) بإطلالتها المرتفعة على البحر، لحضور حفل الغداء الذي أقامته الجامعة تكريماً للمشاركين في فعاليات موسمها الثقافي، وعمداء وأساتذة كلياتها، إلى جانب كبار شخصيات المنطقة وأعيانها من مختلف الجهات والأطياف.. لأسأل الدكتور محمد علي هيازع الذي يزداد إعجابي به عاماً بعد عام: ترى كم تم إنجازه.. من مشروع المدينة الجامعية؟
- من عشرين إلى ثلاثين بالمائة، ثم واصل.. فـ (اليوم تم توقيع عقود تنفيذ أربع كليات: الطب، وطب الأسنان، وطب المناطق الحارة، وإدارة الأعمال).
- وما السبب.. في زيادة نسبة الفتيات إلى الفتيان.. في الجامعة؟
- التسرب عند الفتيان.. وعدمه عند الفتيات.
لأختتم أسئلتي، وأختتم طعامي.. بوجبة (بنت الصحن) الجيزانية الشهيرة التي يبدأ الجيزانيون طعامهم.. بها، بينما.. اختتمت بها طعامي لأنها تسبح في بحر من العسل. وفي العادة.. فإن (الحلو) يأتي في الآخِر.. ولا يأتي أولاً!!
قبل أن تأخذنا (قيلولة) متأخرة.. كان لابد منها، كنت أقول لصحبتي: الآن.. حان وقت زيارة الحرم الجامعي وتفحصه، لنعرف ما تم إنجازه خلال الواحد والعشرين شهراً الماضية وما لم يتم إنجازه بعد.. وكيف هو مستوى ذلك الإنجاز المعماري والفني..؟
بعد دقائق.. كنا إلى جوار الحرم الجامعي، فبدا (سوره الجديد) جميلاً راقياً.. وقد توسطته بوابة لا تقل عنه جمالاً ورقياً، لندلف إلى داخل المكان.. وإلى بحيرة المدينة الجامعية في قلبها بمسطحها المائي الوفير الذي يبلغ مائة وسبعين ألف متر مسطح مائي، وقناتاها البحريتان.. الذي يمر ماء البحر من إحداهما، ليخرج من أخراها، فهذا هو (البرج) بأدواره الثمانية عشر وبتصميمه الملفت وبألوانه الزرقاء والبيضاء، وهذه المكتبة الجديدة وإلى جوارها (المركز الترفيهي).. ينطلقان إلى أعلى، وهذا مبنى (السنة التحضيرية) الذي بدأ استخدامه، وهذه كلية العلوم، وهذا سكن أعضاء هيئة التدريس، وهذا الجزء الذي تم إنجازه من سكن الطلبة.. حيث يسكنه ألف ومائتا طالب الآن، وسيستكمل بسكن آخر للطلبة، وهذه كليات: (الهندسة) و(الحاسب الآلي) و(الإعلام) ونادي الصحافة.. تدور فيهم عجلة بنائهم على قدم وساق، وهذا المستشفى الجامعي.. الذي بدئ في بنائه.. وغير هذه المباني مما تم استكماله خلال الواحد والعشرين شهراً الماضية..!!
ومع سعادتي لما رأيت.. وبهجتي به، إلا أن سؤالاً مازال يؤرقني: كيف أمكن بناء أو إتمام كل هذه المباني.. وبهذا القدر من الجودة والإتقان في هذه الشهور القليلة (21 شهراً)..؟
لتأتيني الإجابة.. من الدكتور إبراهيم النعمي - المشرف العام على العلاقات العامة والإعلام الجامعي -، عندما أخبرني بأن الجامعة ارتأت أن يكون لها لجنة متابعة على المشروع من جانبها.. إلى جانب لجنة وزارة التعليم العالي في الرياض، فكان أن اختارت الدكتور المهندس حسن شوقي الحازمي.. لرئاستها ومعه مجموعة مختصرة من مهندسي وإداريي الجامعة لمتابعة تفاصيل مشروع حرمها الكبير.. الممتد على تسعة كيلومترات على شاطئ البحر بواجهتيه الشمالية والغربية، فكانت هذه النتائج التي أسعدت الجميع.. وجعلتك تسأل عن السبب وراء هذا الإنتاج القياسي في ستمائة وثلاثين يوماً؟!
مع فنجان الشاي الذي انتحيت به جانباً.. كنت أتأمل سنوات الجفاف والعقم في حياة (جازان) المنطقة و(جيزان) المدينة والتي بدت لي وكأنها قدر لا مفر منه، ولا محيد عنه.. لأقول مغتبطاً: لقد صبرت يا (جازان) و(جيزان).. كثيراً وطويلاً، ونلتما أخيراً..!!
dar.almarsaa@hotmail.comجدة