- قاده البحثُ في تأريخٍ شفهي غير موثقٍ عن حقبةٍ خلتْ أن سأل وقرأ واستقرأ وعاد إلى بعض ما كتبه الرحالةُ والمؤرّخون، وكاد يبلغ غايته لولا أن هدفه الاستقصائيَّ أوقفه عند مواقع شبكيةٍ ذاتِ مساسٍ بأحد أطراف القضية، ولم يكن مَوقعًا ذا جاذبية معرفيةٍ وإن لم يخلُ من أهمية مرجعيةٍ قبلية “على وجه الدقة”، وفاجأته العصبيةُ المتمددةُ في متن الموضوع وهوامشه مدونةً بلغةٍ ركيكةٍ وأخيلةٍ مركبةٍ تتضادُّ مع ما رواه الثقات، وليس هذا مهمًا؛ فلم تكن غيرَ مصدر ثانوي، لكنها تنضح بالاستعداء والاستعلاء حول حدثٍ مضى عليه أكثرُ من مئة عام.
- التأريخُ لا نكتبه، بل نكتتبُ به ليغدوَ واحدًا من ممتلكاتنا نبيعُه ونشتريه ونزايد في ثمنه ونزيد عليه، وحين يتصل الأمر بالفترات “المنسية” فإن مجال القول والتقول متسعٌ لما يضيف اختلاقًا ويخلق اختراقًا قد يتأثر به النسيج الوطني.
- خاض المتجادلون حوارًا طويلًا حول قيمة التأريخ الشفهي، ونعى مساندوه على معارضيه اهتمامهم بالوثائق والحفريات التي قد تعني تحيزًا لما يأذن به الكبار أو لما يرتضيه الإعلان والإعلام ويحكم به المتَسيِّد والمستبد.
- لن ينجوَ التأريخُ من التحيز، وسيبقى ميدانًا للتجاذب الديني والسياسي والاجتماعي، ومن يظنُّ أنه سيجد تأريخًا موضوعيًا متفقًا عليه فإن قراءته لمصدرين مختلفين متصلين برسومٍ أو شخوص ستوقفه على حجم التباين المفضي إلى التضادّ بين ما يراه بعضٌ مقدسًا ويحسبه آخرون مدنسًا، والباحث المنصف يتحرَّى الحقيقة بهما وبينهما ودونهما.
- ذاك جانبٌ مُلئَ تفسيرًا وتبريرًا، لكن مشكلتنا اليوم هي مع استسهال “التأرخة” في الوسائط الرقمية فسِيمتْ بالأبخس، وصار أيُّ حكَّاءٍ قادرًا على عرضِ ما وعاه أو حفظه لتنتقل إلى العامة حقائقَ مسلمًا بها من أطرافٍ ومرفوضةً من غيرهم، وقد تنشغل بها جماعاتٌ وتشتعل بها ثارات، وتقسم الواحد وتُشظِّي المتوحد.
- وفي مقابل أولاء يجيءُ الرقيب الرسمي المؤسسيُّ ليمارس دور الحاجب فيمنعَ التأريخَ الشفهيَّ المدقق والموثق من قائليه “على الأقل” وهم ذوو ملامحَ مكشوفةٍ لا تخطئهم رؤى المختصين وإن اختلفت عن السائد أواختفت عن المَسُود؛ فيتداولها الناس فيما بينهم وتتحوّل إلى مراجعَ ثبتيةٍ يتكئ عليها القارئون المحايدون والمجادلون المتحيزون.
- بين هذين المَسربين يفرُّ التأريخُ من السجن إلى الفوضى ولا يمر بالأسواق ولا يجلس مع الناس ولا يُعامل كما الأسوياء لهم كما عليهم؛ فلا كمال يحيط بشخصٍ غيرِ نبي ولا نصٍّ بشري، وهنا مأزق التأريخ حين يكتب فيُوارى أو يَهذر فيُرى.
- الخزائنُ المغلقة دون المكتوب والمُسجل من تأريخنا الشفهي ستجبرها على أن تندلق بالصادق والزائف، وكثيرٌ من صانعي الأحداث المجتمعية العامة محجمون عن تسجيل ما تحويه ذواكرُهم ليقينهم أن الوقت لا يأذن لهم بقول الحقيقة، مثلما لن يرضوا بكتابة أو قول ما لا يُضيف أو يضيء، وهو ما يخلق فراغًا يستغلُّه الهارفون ويستقلُّه العابثون بعودِ ثقاب وسط عَتمة معلوماتٍ وعُتوّ تعليمات.
- التأريخُ “شاهدٌ وشهيد”.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon