أصبح شأن “التعليم العالي” الآن من أهم الشئون والموضوعات التي تتصدر الإعلام وتتصدر وسائل الإعلام الاجتماعي وتتصدر ربما أحاديث وجلسات الأسرة السعودية في بلادنا. وتنوعت هذه الموضوعات في المرحلة الحالية، ولاشك أن هذا التنوع يعكس الحراك الكبير الذي يدور في أروقة مؤسسات التعليم
العالي وعلى رأسها الوزارة بحكم مسئولياتها التنظيمية والإشرافية والتنفيذية.
وفيما مضى من سنوات كان موضوع القبول في الجامعات هو الموضوع الأكثر تناولا لدى الرأي العام المحلي، وكان يمثل هاجسا أسريا ومجتمعيا، كما كان يشكل هاجسا أمنيا في كثير من الأحيان.. وفي إطار مواجهة وزارة التعليم العالي لهذه المشكلة الكبيرة عملت الوزارة على حلول إستراتيجية وليس فقط حلولا مرحلية، وكان من أهم هذه الحلول هو استحداث جامعات عديدة وفي كل المناطق، وهذا من شأنه أن وضع حدا لمشاكل القبول في بلادنا.. وافتتاح جامعات جديدة ليس مجرد هدف لحل مشاكل القبول، ولكنه هدف تنموي مهم ويساهم في حل مشكلة القبول العالقة في المجتمع في سنوات ماضية..
إن “مشكلة القبول” يجب أن تكون نموذجا لباقي المؤسسات التنفيذية في بلادنا في كيفية إدارة مشكلة كبيرة وخطيرة وذات تهديدات مجتمعية بطريقة إستراتيجية وعبر عدد من السنوات. وتمكنت وزارة التعليم العالي وفق رؤية وطنية أن تضع حلولا إستراتيجية لمشكلة لو تفاقمت لكانت قد هددت أمن واستقرار المجتمع..
إن مشكلة القبول في الجامعات حاليا أصبحت من التاريخ ولم تعد المشكلة الآن: هل يقبل أبناؤنا وبناتنا في الجامعات، بل ربما في أي تخصص وفي أي منطقة، وهذه بكل تأكيد موضوعات لا تشكل أي ظاهرة أو تأثير على مجريات الشأن المحلي والحمد لله، لأن المشكلة التي كنا نواجهها قبل عدة سنوات كانت هل يوجد قبول للشباب السعودي خريجي الثانويات أم يبقون في الشوارع؟ وقد تجاوزنا هذه الأزمة والحمد لله..
أعود إلى موضوع القبول في الجامعات لأكتب عنه ليس لذاته، ولكن ليكون نموذجا تقتدي فيه كثير من المؤسسات التنفيذية في المملكة، فكل وزارة - إذا أخذناها في الإجمال - تواجه مشاكل كبيرة ترتبط بالمواطنين وباحتياجاتهم، ولكن للأسف في كثير من الأحيان تعمل بعض هذه الأجهزة على حلول بمقاسات “الأربع سنوات” عمر الكرسي التنفيذي، ولا تراعي إلا إسكات الإعلام أو لجمه بحلول صوتية لا تتعدى سياقها الزمني أقدام مسئولي الوزارة، وقد يبدو ظاهريا أن هناك تحركا وجهودا، ولكن للأسف كلها تذهب إدراج الرياح. ولم يكن المرتكز الأساسي هو بناء حلول إستراتيجية لمشاكل المجتمع، بل هو إبهار الإعلام بحلول إعلامية يتلهى بها المواطنون بعض الوقت..
نحن بحاجة ماسة إلى أن نفكر استراتيجيا في كل موضوع أو مشكلة أو قضية وطنية، ويجب أن نتجاوز الحلول الإبهارية ذات الأضواء الإعلامية فقط، فصور المجسمات الضخمة، وحفلات التدشين المبهرة، وأفلام تعد وتنتج في شركات دولية هدفها الخمس أو العشر دقائق أمام المسئولين، والإعدادات الاستثنائية لحفلات التدشين والخطابات الرنانة والتغطيات الإعلامية المدفوعة والتي تكلف أحيانا عشرات الملايين كلها يجب أن ننظر إليها على أنها وسائل الهائية عن محور القضية أو الموضوع. ومنذ سنوات ونحن تتخبط في مثل هذه البروتوكولات التي هدفها الشخص الأعلى وليس عموم الأشخاص المعنيين بالموضوع.. ولنعترف أن أنظار أصحاب الكراسي التنفيذية ليس المواطن البسيط أو الجمهور المعني بالخدمة أو المنتج الوطني بل الأنظار دائماً هي إلى الأعلى إلى أولياء الأمر مهما تعددوا واختلفت مستوياتهم.. متناسين أن ولي الأمر عينه ونظره وفكره وتوجهاته هي إلى المواطن بالدرجة الأولى.. وإذا فشل أصحاب الكراسي التنفيذية في خدمة المواطن فهم بلا شك فشلوا فشلا ذريعا أمام ولي الأمر..
وما أعنيه تحديدا أن الهيئات والوزارات يجب أن توجه رؤيتها لحلول عمل إستراتيجية للمشاكل والقضايا الوطنية، ويجب أن يكون البحث هو إلى الأبقى وليس إلى الوقتي. فأي مشكلة أو قضية يجب أن نفكر فيها وفق استراتجيات وطنية، وينبغي تناولها من كافة الزوايا وعلى مختلف المستويات، ووفق دراسات عميقة ومنهجيات عملية وتجارب دولية ناجحة..
إن الدولة تسعى إلى اختيار أشخاص يمثلونها أمام المواطن، وتمنحهم كافة الصلاحيات التي يحتاجونها، ولكن إخفاق هؤلاء ينعكس على صورة الدولة ويستدعي أحيانا تبعات تكون الدولة والمجتمع في غنى عنها..
بكل موضوعية وتجرد فما تحقق من قبل وزارة التعليم العالي من منجزات حقيقية وليست بهلوانية من تأسيس الجامعات والبنى التحتية لها والحراكات التطويرية فيها، وفتح الجامعات في مختلف المناطق وإضافة الجامعات والكليات الأهلية كرافد إضافي هي إنجازات حقيقية على أرض الواقع.. كما أن الاستثمار في الإنسان كطالب في الجامعة أو في الابتعاث - برنامج خادم الحرمين الشريفين - هو استثمار وطني حقيقي ملموس.. ونتساءل: لماذا استطاعت وزارة التعليم العالي أن تحقق مثل هذه النجاحات الوطنية؟ والإجابة بكل بساطة إن العقول التي تعمل فيها وهي من مخرجات التنمية في بلادنا هي عقول علمية، وتتسم بالعلمية في دراسة الواقع وتشخيص المشكلة ووضع الحلول.. كما أن التفكير الاستراتيجي للوزارة خلال السنوات الماضية هو الذي أفضي إلى مثل هذه النجاحات في الجامعات وفي كافة مؤسسات التعليم العالي. وعندما طرحت موضوع القبول فقد كان مجرد نموذج كان يهدد الحياة الاجتماعية في وقت من الأوقات، ولكن التفكير الاستراتيجي في حل هذه المشكلة وغيرها هو ما نحاول أن نلفت الانتباه إليه.. واليوم رغم التعاطي الكبير مع شئون التعليم العالي في مختلف الوسائل إلا أن هذه التعاطيات تظل في معظمها إيجابية وتصب في خدمة المصلحة الوطنية، ولن يستطيع شخص أن يجافي حقائق الأمور التي نراها.
alkarni@ksu.edu.sa- المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود - رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال