|
الجزيرة - د. حسن أمين الشقطي:
بدأ التضخم يدق ناقوس الخطر بالمملكة، ويتطلب ذلك تركيب السياسات المالية والنقدية على أساس صياغة علاج حقيقي له، ولا نبالغ إن قلنا أن المملكة في حاجة لتبني سياسات انكماشية لتقليص معدلات التضخم التي تؤدي إلى تآكل المكاسب الحقيقية لضخ معدلات مرتفعة وقياسية من الانفاق الحكومي. وصدر الأسبوع الماضي التقرير الجديد لمؤسسة النقد العربي السعودي، وهو الإصدار الثامن والأربعون لعام 1433هـ (2012م)، ويستعرض التقرير أهم التطورات الاقتصادية الحديثة بالاقتصاد السعودي حتى نهاية 2011م، باستثناء بعض الإحصاءات التي تم استعراض
تطوراتها حتى نهاية الربع الأول من 2012م .. وتوجد ثلاثة أمور جدير بالملاحظة في سياق إصدار هذا التقرير السنوي، نستعرضها فيما يلي:
أولا: التطورات المثيرة
في معدل التضخم بالاقتصاد المحلي
تعتبر التطورات الحادثة في معدلات التضخم من أبرز المؤشرات الاقتصادية بأي اقتصاد وطني، لأنها تلعب دورا مهما في تحديد مستويات المكاسب أو القيمة المضافة للأفراد والشركات من الإنفاق والناتج .. ورغم أن التقرير السنوي صدر بتاريخ 19 فبراير2013م، إلا أنه لا يضم سوى بيانات التضخم حتى نهاية الربع الأول من 2012م، رغم أنه يوجد تقرير ربعي صادر عن مؤسسة النقد نفسها يضم بيانات عن معدل التضخم حتى نهاية الربع الرابع من 2012م .. وهو أمرا يثير الاستغراب ألم يكن جديرا أن يستخدم التقرير السنوي البيانات الصادرة عن التقرير الربعي للتضخم،
ليضم بيانات أحدث من تلك الصادرة والتي تركز على تحليل إحصاءات عام 2011م؟
وعليه، فإن التقرير السنوي لمؤسسة النقد نظرا لأنه يضم بيانات حتى نهاية الربع الأول من 2012 فقط، فإنه لا يعتبر مهما في تحليل التضخم، وسنركز هنا على تقرير التضخم الربعي الذي يضم بيانات عن التضخم حتى نهاية الربع الرابع 2012م. ويشير تقرير التضخم الربعي الأخير الصادرإلى أن الرقم القياسي لتكاليف المعيشة قد سجل مؤشرات جيدة ومحسنة حتى نهاية 2012م، حيث سجل ارتفاعا بنسبة 1.6% في نهاية
الربع الرابع 2012م مقارنة بالربع الثالث من العام، وهي نسبة معتدلة وتبدو مقبولة .. كما أن الرقم القياسي لتكاليف المعيشة في الربع الرابع 2012م سجل ارتفاعا بنسبة 3.9% عن الربع المقابل من العام السابق 2011م، وهي أيضا نسبة مقبولة .. أما على المستوى السنوي، فقد سجل الرقم القياسي لعام 2012م ارتفاعا بنسبة 4.6% مقارنة بـ 2011م، وهو معدل أفضل عنه لعام 2011م، أي أن التقرير يشير إلى تحسن وتراجع في معدل التضخم. إلا أن كل المراقبين للواقع المعيشي بالمملكة، وخاصة المدن الكبرى كالرياض وجدة والشرقية، يلحظ أن معدلات التضخم الحقيقية أعلى من تلك المذكورة عالية .. وهو أمر يثير الدهشة، فلماذا هذه المعدلات لا تعبر عن الواقع بدقة .. يمكن تفسير ذلك بما يلي:
(1) إن طريقة حساب هذه المعدلات عاليه تلطف من الواقع الحقيقي، لأن هذه المؤشرات تقارن ربع بربع، ثم تقارن متوسط عام بمتوسط عام.
(2) إن طريقة حساب الأوزان النسبية لكل مجموعة من مجموعات السلع هي محل نظر، فمجموعات السلع محل الاهتمام المعيشي الحقيقي للسكان هي الأطعمة والمشروبات، والترميم والإيجار والوقود، والرعاية الطبية، هذه المجموعات تمثل صلب الحياة المعيشية، فضلا عن أنها تمثل الضرورة المعيشية، وهي تختلف عن مجموعات أخرى لا تعتبر ضرورة، مثل النقل والاتصالات، والتي كان يفترض أن تحصل على أوزان نسبية منخفضة نسبيا.
(3) إن الوزن النسبي لمجموعة الترميم والإيجار هو 26.0% ، والوزن النسبي للترميم والإيجار والوقود هو 18.0%، إلا أن الوزن النسبي للنقل والاتصالات هو 16.0%، فضلا عن 11.0% للتأثيث المنزلي، وهذه الأوزان لا تعبر فعليا عن أهمية مجموعات السلع، وحتى إذا كانت تعبر عنها في فترات ماضية، فإنها في 2013م تحتاج للمراجعة، فالأطعمة والإيجار هما أساس التضخم، ويحتاجان لأوزان أكبر، في حين أن التأثيث المنزلي أو الاتصالات لا تمثل ضرورات حياتية، حيث يمكن أن يحصل عليهما الفرد، أو يمكن تأجيلهما أو الاستغناء عنهما في أحيان أخرى.
(4) فالتأثيث المنزلي على سبيل المثال يفعله الفرد مرة أو مرتين أو ثلاث مرات في حياته كلها، أما امتلاك عقار يتطلب منه الارتباط بقروض أو استثمار يمتد لفترة طويلة، أو حتى تأجير عقار يتطلب منه انفاق سنوي.
(5) إن دمج السلع في مجموعات معا هو أمر محل نظر أيضا، فدمج الترميم والإيجار والوقود، يلطف تأثيرات الإيجار العقاري أو أسعار امتلاك عقار أو شقق .. والسؤال الذي يفرض نفسه هو كيف يمكن أن نصل إلى التضخم في أسعار العقارات من مضمون هذه المجموعة ؟ ثم إن أسعار الوقود تكاد تكون شبه ثابتة، ولا تتغير سوى على مدى فترات زمنية طويلة، فلماذا ندخلها في طريقة حساب معدل التضخم ؟
(6) أيضا أن دمج الأطعمة والمشروبات في مجموعة واحدة يلطف من تأثيرات التضخم للأطعمة، لأن المشروبات لا تتحرك أسعارها بشكل مشابه للأطعمة.
(7) أيضا احتساب التضخم للرعاية الطبية، والتعليم والنقل والتي تسجل كل سنة معدلات تغير منخفضة للغاية، هو أمر محل نظر، لأن هذه المجموعات هي أصلا تسجل معدلات أسعار عالية بالسوق المحلي، فالجميع يعلم أن الرعاية الطبية بالسوق المحلي أسعارها مرتفعة نسبيا، وتسجل ارتفاعا طفيفا للغاية من عام لآخر، وبالتالي فإن إدخالها في معدل التضخم يلطف من معدلات تغير المؤشر العام.
(8) أيضا يوجد في حساب المؤشر العام للتضخم مجموعة تعبر عن «السلع والخدمات الأخرى»، وهي أيضا مجموعة غير معروفة، إلا أنها تؤثر في المؤشر العام بنسبة 17.8%، وهذه المجموعة محل نظر، حتى نتأكد من أنها تستحق هذا الوزن النسبي العالي.
(9) إن توزيع الأوزان النسبية وتشتتها بين مجموعات سلعية وخدمية غير ذات أهمية للفرد، يتسبب في تشتت معدلات التضخم للقطاعات الحقيقية التي تضغط على ميزانية المواطن، وبالتالي يجعل المؤشرات المحسوبة لا تعبر عن واقعه بشكل حقيقي.
وينبغي معرفة أن تركيب هذه الأوزان تقع على مصلحة الإحصاءات العامة، التي تبني وتجمع هذه الإحصاءات.
(10) لو أردنا حساب معدل حقيقي للتضخم، فينبغي أن نركز على مجموعتي الأطعمة (وأن نعزل منها المشروبات)، وأيضا مجموعة الإيجار والترميم (بعد أن نعزل منها الوقود) .. ولو قمنا بحساب معدل التضخم بناء على هاتين المجموعتين حتى بدون عزل العناصر الملطفة فيهما، فسيصل معدل التضخم السنوي في نهاية عام 2012م إلى 6.4% مقارنة بعام 2011م.
(11) أما إذا أردنا استطلاع التضخم في صورته الحقيقية، فينبغي أن نقارنه بدول أخرى، ويوضح الشكل رقم (3) أعلاه أن المملكة حتى 2008م، كانت أقل الدول الأربعة محل المقارنة من حيث معدل التضخم، إلا أنه بداية من 2009م أصبح التضخم يمثل مشكلة حقيقية، حتى أن المملكة أصبحت تضاهي الصين في معدلات التضخم، وأصبحت تتفوق على الإمارات والأردن، بعد أن كانت تسجل المعدلات الأقل مقارنة بهما.
ثانيا: فجوة الإبطاء في سنوات
الإحصاءات المنشورة بتقرير ساما
رغم أن التقرير السنوي الجديد لمؤسسة النقد صدر في 19 فبراير2013م، إلا أنه لا يزال يعطي تحليلا ورصدا لإحصاءات عام 2011م، بشكل يجعل هناك فاصل زمني بعامين بينه وبين الواقع .. وكان أولى بالتقرير إما الصدور سريعا خلال الربع الأخير من 2012م مثلا أو أن يتضمن على الأقل بيانات عن الربعين الثاني والثالث من 2012م، وخاصة بالنسبة لإحصاءات الناتج وعرض النقود وغيرها من الإحصاءات التي تصدر فيها تقارير ربعية عن مؤسسة النقد نفسها .. فكافة التقارير الربعية لساما أصدرت مؤشرات حتى الربع الرابع 2012م تقريبا، في حين أن التقرير السنوي لم
يتطرق سوى للربع الأول من 2012م فقط لبعض البيانات.
ثالثا: غموض وصعوبات
قراءة الأرقام بالتقرير السنوي
رغم ما ناله هذا الإصدار من تحسينات واضحة مقارنة بالسنوات الماضية، إلا إنه لا يزال يعاني من بعض العيوب وأوجه القصور الشكلية في قراءة الأرقام، من أبرزها ما يلي:
(1) إنه يستخدم الأرقام العربية أو الهندية تارة، والأرقام الإنجليزية تارة أخرى.
(2) إنه اعتمد بشكل شبه كامل على كتابة الأرقام باللغة العربية المجردة، بدون استخدام فواصل للأرقام الكبرى التي تتكون من أكثر من 6 أرقام (بالملايين)، فكيف يمكن للقارئ أن يقرأ رقم يتكون من تسعة أرقام بدون فواصل، ويعتبر ذلك من أهم الأمور التي تصعب قراءة إحصاءات المؤسسة، لأن الفرد مضطر أن يستخدم أصابعه ليعد الأرقام ليحدد قيمتها بدقة.
المصدر: الأشكال مأخوذة عن تقرير التضخم للربع الرابع 2012م، مؤسسة النقد العربي السعودي.
مستشار اقتصادي - Dr.hasanamin@yahoo.com