قرأت في جريدة «المصري اليوم» خبراً يقول : (إن شيخ الأزهر يعكف على اختيار وتدريب مجموعات من الوعاظ ليقوموا بعرض الإسلام الصحيح على المواطنين، حتى يتمكنوا من المواجهة الفكرية للمد المتشدد، معربًا عن استعداده لإرسال قوافل دعوية تجوب المحافظات والقرى بالتنسيق مع الجهات المعنية). كما جاء في الخبر: (واستعرض شيخ الأزهر أحمد الطيب دور الأزهر في السنوات الثلاث الأخيرة، وما بذله من مجهودات في شأن إصلاح التعليم بمراحله المختلفة، للعودة بالمنتج البشري إلى مكانته المرجوة بعدما حرفت المناهج الدراسية وقلصت لتنتج ثمارًا أزهرية ممسوخة. وأوضح أن خير شاهد على هذا تجربة الشعبة الإسلامية في عشر محافظات، وتحسين أوضاع المعلمين المالية، وعقد الاتفاقيات مع بريطانيا ليكفل معرفة الأزهريين باللغات الأجنبية لتنمية قدراتهم).
الفكرة رائدة، وما أحوجنا إلى الاقتداء بها، ومحاصرة التشدد والمتشددين من خلال الحوار والتوعية؛ وتبيان أن الإسلام هو دين السماحة والأمر بالمعروف قبل أن يكون نهياً عن منكر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم (ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما) وأنه صلى الله عليه وسلم هو من يقول: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)؛ ولو عاد أحدنا إلى أحاديث اليسر والتسامح والحث على هاتين القيمتين الإنسانيتين في الإسلام لملأ كتباً وليس كتاباً واحد.. طيب؛ ما الذي جعل هذه القيم الجميلة الرائعة تتراجع أو بلغة أدق: تكاد تختفي، ليحل محلها التشدد والتعسير والغلظة؛ حتى أصبح يُخيل لكثيرين (خاصة الأحداث وصغار السن) أن هذا الدين لا يستقيم ولا يظهر ولا يُنصر إلا بالتشدد والتطرف والتعسير، بل والعنف، ونبذ كل قيم التيسير والتسامح واللين؟
السبب أن أهل التيسير من العلماء الثقات تنحوا جانباً واكتفوا بالعيش في الظل، وتركوا الساحة لمجاميع من المتشددين الجهلة الغلاة، يسيطرون على المشهد، ويتحكمون بالصورة، وكأنهم هم دون غيرهم من يُمثلون الإسلام.
أريدكم فقط أن تقرؤوا اعتراضات من تجمهروا قبل أسابيع أمام الديوان الملكي، يعترضون على قضايا، ويطالبون بمطالب أقل ما يقال عنها إنها مطالب لإقامة (دولة طالبانية) في بلادنا؛ فلم يجد هؤلاء الطالبانيون من العلماء من يقف ويتصدى لهم بالحجة والدليل؛ خاصة وأن مطالبهم لا تحتاج إلا (لطويلب علم) كي يُفندها ويرد عليها.. فمثلاً - وليس على سبيل الحصر - جاء في تلك الاعتراضات كما في البيان الذي أصدروه ونُشر في الإنترنت: (أ. مزاحمة كليات الشريعة بأقسام القانون.. ب. توسيع فرص الابتعاث للطلاب والطالبات -من حملة الشهادة الثانوية- لدراسة القانون ج.اعتبار مادة القانون من المواد التي يستحق مدرسها (بدل ندرة) !.. هذه الفقرة بصراحة لا يمكن أن يكتبها إلا جاهل في «علم المصطلح»؛ وكما يقال: (معرفة مصطلحات العلم هي نصف الفهم)؛ فمصطلح (شريعة) لا يمكن أن يتعارض مع مصطلح (قانون) إلا أن يكون (وضعياً) وينسف ثوابت الشريعة التي لا يجوز مخالفتها بحال وهذا أمر آخر؛ فالشريعة هي (المصدر)، والقانون هو (الآلية)؛ أو بلغة مجازية: الشريعة بمثابة البئر، والقانون الدلو الذي يمتح من البئر؛ والعبرة بـ(المصدر /البئر) وليس (بالآلية / الدلو)؛ وعندما تخلط بين الآلية والمصدر في الطرح فأنت تعاني من جهل مطبق في فهم وتصور المصطلح: (علم يعنى - كما يقول «الدكتور علي القاسمي» في كتابه «علم المصطلح» -: بمعنى الكلمة في سياقها اللغوي، أي من خلال علاقاتها مع الألفاظ الأخرى المكوّنة للجملة).. والسؤال الذي يطرحه السياق: هل حاول أحد من المشايخ الثقات محاورة هؤلاء المحتسبين البسطاء، وشرحَ لهم أن هناك ارتباكا لديهم في فهم بعض القضايا ومصطلحاتها، وأن هذا الارتباك هو ما جعلهم يتصورون أن مطالبهم مطالب مشروعة، وتُعبر عن مطالب شرعية، في حين أنها ليست بالضرورة كذلك؛ فهي على الأقل تطرق قضايا خلافية وليست قطعية؛ فضلاً عن أنها تقف من كل مشاريعنا التنموية، وبالذات التنمية البشرية، موقف النقيض تماماً.
إننا لو تأسينا بالأزهر، وأقمنا مثل هذه القافلة التعليمية التوعوية، تجوب أنحاء المملكة، تناقش وتحاور، وتبين، لاستطعنا محاصرة هذا الفكر البسيط المتشدد، الذي كلفنا على كل الأصعدة كثيراً من الجهد، وشوّه صورة المملكة في الخارج، فهل ترى مثل هذه القافلة النور؟
إلى اللقاء.