تحدثت في مقالي المنشور في نفس هذه الزاوية يوم أمس، عن حياة المتقاعدين التي تتوقف “إجباريا” مع تسلم قرار التقاعد, ويخسر معها الوطن كفاءات فاعلة تتحول بفعل قرار إلى قدرات حزينة يكتسيها الإحباط والمرض, خصوصاً في بيئتنا التي لم توفر شيئاً للمتقاعدين سوى الصورة النمطية لقليل من الرياضة مساءً، وبعض التجمعات لهم لا تُسمن ولا تُغني من جوع, خاصة أنهم من الفئة التي تكون في قمة نشاطها في الصباح الباكر, فلماذا لا نستفيد منهم؟ وهنا لا بد أن أشير إلى دراسة أمريكية منشورة في الدورية الدولية للصحة المهنية، تؤكد أن الأشخاص الذين يعملون بعد سن التقاعد يتمتعون بحالة صحية وحيوية ولياقة عالية أفضل من غيرهم المتقاعدين.
منذ فترة وأنا أفكر وأود أن أكتب عنهم, وأسأل نفسي كيف يستفيد المجتمع منهم؟ أعلم أن هناك من سيقول إن بعض الجهات تقوم بالتعاقد مع المتقاعدين الكفاءات، إنما تظل حالات فردية، لذا يأتي اقتراحي بإيجاد كيان للمتقاعدين كجمعية أو هيئة، تقوم بالتوجيه اللازم لهم وتخرج كمظلة للتفكير بالاستفادة من المتقاعدين ليقوموا بدور الرصد لا أكثر. ولأعطي مثالا توضيحياً لما يدور في ذهني، مثل قضايا التستر والفساد والمشروعات التي لا تنتهي حسب وقتها والحفريات وغيره الكثير في شوارعنا وأحيائنا في كل مناطق المملكة، فلو تم الاستفادة من المتقاعدين بعمليات الرصد والبحث وكتابة تقارير وصفية عن هذه الحالات، لاكتشفنا كثيراً من أوجه الفساد، وفي الوقت ذاته استفدنا من هذه العقول والسواعد التي ركناها على الرف، وهؤلاء باعتقادي هم الأكثر قدرة على اكتشاف مثل هذه القضايا، إذ أتذكر أحد كبار السن الذي بلغني قيامه بالبحث في أحد الأحياء بمدينته ورصد كثيرا من حالات التستر إما لصالح عمالة أجنبية مباشرة، أو استغلال أسماء نسائية في السجلات التجارية، وهذا المتقاعد لم يكلفه أحد بهذه المهمة، إنما قام بها ليتأكد من بعض أوجه الفساد، وإرضاء لفضوله، وهنا أسأل: كم متقاعد لدينا نستطيع تكليفه والاستفادة منه بمثل هذه المهام التي ستكون لصالح هيئة الفساد نفسها، وهنا لا بد من تذكر أن رئيس هيئة الفساد - نفسه - الأستاذ محمد الشريف، هو من المتقاعدين، مع ذلك، تم الرجوع له عندما بدأ تدشين هيئة مكافحة الفساد لأنه الأنسب لهذا المنصب، وكم من محمد الشريف لدينا في هذه البيوت، لديهم الكثير من العطاء والفكر الذي بعثرناه ولم نعرف قيمته؟ والأهم، أن الاستفادة من المتقاعد ليس بالضرورة أن يكون على درجة لمنصب عال، إنما الفائدة منه في البحث والتقصي تحت مظلة هيئة المتقاعدين، وحتى بدون بطاقة شخصية، شريطة أن لا يُمارس أي نوع من أنواع السلطة أو الحديث والتحقيق مع الآخرين، فيكون دوره محصوراً بين البحث والرصد.
كذلك لماذا لا يستفاد من المتقاعدين في المجالات العسكرية والأمنية كالدفاع المدني والشرطة والمرور لإعطاء المواطنين دورات مسائية داخل المدارس في كل حي يقطنون فيه, عن طرق التعامل مع الحرائق ووسائل الإنقاذ وحماية البيوت من السرقة وغيرها, وبهذا نحولهم لأيادٍ عاملة, خصوصا إذا ما قارناهم بأصحاب الوظائف التي لا تحدد سناً للتقاعد ويعيشون إلى أعمار متقدمة وهم ينتجون دون أن تأتيهم ورقة تستوقف الحياة.
هي مجرد أفكار، أنثرها هنا لأجل هذا الإنسان في هذا الوطن، ومحاولة لتغيير تراكمات وضعت الفكر المجتمعي في منحنى مؤسف بالنظر للإنسان وقيمته وكذلك تحديد صلاحيته، فالحياة بالعطاء أجمل، والعطاء لا عمر له!
www.salmogren.net