قال أبو عبدالرحمن عفا الله عنه: أهدي لسعادة الدكتور محمد الهدلق هذه الفقرات:
* لم يرد في لغة العرب غير (الهِدْلِق) بكسر الهاء واللَّام، وحسب مذهب الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى في الرباعي فما فوقه:
فهي عنده منحوتة مِن (هَدِل) بفتح الهاء وكسر الدال المهملة بمعنى استرسل.. ومِن (دَلَق) إذا خرج من المكان الذي به.. ومما يَدُلُّكم على عِظَمِ فقه هذا الإمام - ابنِ فارس رحمه الله تعالى - أنك تجد المعنى للرباعي فما فوقه مأخوذاً من أجزاء مادتين تمَّ النحت منهما.
* * ولغة العرب لا يُحيط بها إلا نبيٌّ كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى؛ ولهذا فكم في استعمالِ عربِ نجد بعد فساد السليقة من كلمات عربية بصيغٍ ومعانٍ موروثة لم يَقْتَنِصْها جُمَّاع اللغة، ولا يُستعمل الآن في نجد إلا (الهَدْلق) بفتح الهاء، وهي في الاشتقاق جارية على منهج ابن فارس فيما فوق الرباعي، ولكن بمعنى صحيح وهو مِـمَّا فات جُمَّاع اللغة بيقين، وإن فُرض أنه غير مستعمل عند عرب السليقة (وذلك بعيد) فهو صحيح بمنهج نُمُوِّ اللغة في المجاز والنحت، فالهَدْلق بفتح الهاء منحوت مِن (هَدَلَ) بفتح الهاء والدال، وتدُلُّ على معنيين: أحدهما العظمة التي يُمْدح بها البعير؛ لأن الهَدَل بفتح الهاء والدال لِعِظَم الشفة واسترسالها.. وثانيهما جميل، وهو غِناء الغلام يقال: (هَدَل هديلاً) بفتح الهاء والدال.. قال ذو الرُّمَّة:
طَوِيُّ البطنِ زَمَّامٌ كأن سَحِيلَه
عليهنَّ إذا وَلَّى هديلُ غلامِ
شبَّه صوت فحل الحُمُر الوحشية في سحِيله إذا صوَّت لهنَّ بغناء الغلام؛ إذن هناك استرسال خِلْقة عظيمة، واسترسال صوت جميل فيه هِـمَّة وعَظمه في سَوْقِه القطيع.
* * * والجزء الثاني من المنحوت منه دَلَق، وهي لإخراج السيف من غِمْده، وفتْحِ الباب بِشِدَّة، ودلَق الغارة بمعنى شنَّ الحرب.. والأسماء عند العرب فألٌ لهم، وشؤمٌ على أعدائهم؛ فمعنى (هَدْلَق) إذن استلَّ سيفه؛ إذْ دَلَق الحرب كأنه يريد أن يأكلهم بشفته.. وقولهم: (الأسماء لا تُعلَّل) قاعدة خرقاء، بل كل اسم مُعلَّل في أصول اللغة، وقد يكون مجهول التعليل في سلوك الإنسان بتسمية ابنه وإن كان الاسم قبل أن يستعمله معروفَ الاشتقاق لغةً؛ فمحماس عند العامة صفةُ الشجاع يحمس القوم في الحرب، وقد يأتي إنسان يسمي ولده مِحماساً ولا ندري أكان ذلك عن وعيٍ بمعنى المادة، أو تسميةً على جده أو أخيه، أو تسمية عن ارتجال كيفما اتفق، وإذا صح أيُّ وجهٍ للاشتقاق فهو مُقَدَّم على دعوى الارتجال بلا معنى هادِف.. وقد يكون المجازُ النَّحتي من تكرار الدال دون اللام؛ فالمعنى هدَّ على القوم دالقاً سيفه.. ويُزَكَّى رأي ابن فارس في معنى الرباعي فما فوقه حكايةُ الأصوات، وقد يكون في حكاية الصوت زيادةُ حرف، ثم يكون منه صِيغٌ من الأفعال والأسماء والمصادر والصفات.. وهكذا الصيغ من الأسماء الجامدة كالصَّلْت اسم السيف..تقول صلصلة وسلسلة وبربرة وبربر وزحزحة وتزحزح وتنحنح.. وصَلَـتَه بمعنى الإلقاء إلى أسفل، والصلت العاري؛ لأن السيف عُرِّي مِن غِمده، وعامة أهل نجد يقولون عن إلقاء مثل المِعول في بئر عن جُهْدٍ شاق (صَوْلَتَه).. وفي القرآن الكريم {سَلْسَبِيلاً} (الإنسان 18)، وأصحُ وأحسن ما قيل عن معناها ما ذكره الإمام المحقِّق المدقِّق السمين رحمه الله تعالى في عمدة الحفاظ 2/241.. قال: “قال ابن عرفة: هي اللينةُ السهلةُ في الحلقِ التي تُسلسلُ فيه، ويؤيدُ هذا تفسيرُ ابن عباس (رضي الله عنهما) (إذا أَدنَوها من أفواهِهم تَسَلْسَلَتْ في أجوافِهم.. قال ابن الأعرابي: (لم أسمع سَلسبيلاً إلا في القرآن).. ويقالُ: عينٌ سَلسالٌ وسَلسلٌ وسَلسبيلٌ عذبةٌ سهلةُ المرور في الحلق، وأغربُ ما قيل فيه (وليس بمستقيم عند المحققين): أن أصلَه سَلْ سَبيلاً فيكونُ سَلْ فعلَ أمرٍ، وسبيلاً مفعول به، أي: سَلْ طريقاً إلى الجنةِ”.
قال أبو عبدالرحمن: الرأي الأخير تلاعُبٌ بكلام الله،والمعنى الصحيح يُنَزَّل على ما لم يوجد إلا في القرآن الكريم؛ لأنه عن معنى نعيمٍ مُغَيَّب الآن، فتفسيره على أجمل وألذِّ المعاني اللغوية؛ فلما وجدنا الباء بنقطة من أسفل، وياء بنقطتين من أسفل علمنا يقيناً أنها بمعنى سهْلِ المرور في الحلق الذي هو السبيل؛ فالأصل: (سلس، وسبيل).
* * * * ولدكتورنا نصيب من لقبه: من ناحية العظمة في الأخلاق؛ فأنا أَكْبُره سِنّْاً بعام أو عامين، وقد سبقني في الدراسة بعامين أو أكثر؛ لأنني خرجت من الكتاتيب والتحقت بالتعليم المدني على كِبَرٍ مع كثرة غياب عن الدراسة، وكان الدكتور محمد عظيماً في أخلاقه لم تُجرَّب عليه صَبْوة، ولا خُلْطةُ بالسفهاء، وكان عَّف اللسان؛ وذلك آثار تربيةِ أسرةٍ كريمة ذات كفافٍ وعَفاف ولاسيما والده عبدالرحمن وعمُّه سعد رحمهما الله تعالى.. والدكتور مُوَحِّد لا أعلم أنه تزوَّج غيرَ بنت عمه.. وله نصيب من ناحية الاندلاق الثقافي، ولهذا حديث يأتي إن شاء الله.
* * *
* السَّفَطُ وعاء يوضع فيه الطيب كالأُلُوَّة - بفتح الألف المهموزة وضمِّها -، وهي العود الذي يُتبخَّر به، وهو ذو رائحة فوَّاحة قبل التجمير وبعده.. والدليل على أنه فوَّاح قبل تجميره أَثَرُ رائحته في السَّفَط؛ فقد مَرَّ أعرابي بجثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُدْفَن؛ فقال:
هَلَّا جعلتم رسول الله في سَفَطٍ
مِنَ الأَلُوَّة أَحْوَى مُلْبساً ذهبا
وفي رواية: ألا دفنتم.. مِنَ الأَلُوَّة والكافور منضودِ.. وبهذه الرواية هو لحسان بن ثابت رضي الله عنه.. ويدلُّك على أن الأَلُوَّة عود البخور ما أنشده ابن الأعرابي:
فجاءتْ بكافورٍ وعودِ أَلُوَّةٍ
شآمية تُذْكَى عليه المجامِرُ
* * والسفط أيضاً وعاءٌ للجواهر، ولحفظ نفائس العلم المكتوبة.
* * * والدكتور الهدلق سَفَطُ علم وجواهر وأَلُوَّة ونفائس علم مخزون.. وهو (شُحْناتُ أَلُوَّة) جمَّر بعضها لطلابه؛ فهو أستاذ جيل ولا فَخْر.. خرَّج أجيالاً، وجمَّرهم، وحَرَم القرَّاء من التجمير؛ لأن عطاءه في التأليف قليل، وما نشره في الدوريات من مقالات بعيد المنال عن أكثر القراء، ولذلك حديث يأتي إن شاء الله.. وهو رفيق درب الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع، وهما فرسا رهان جمعتهما نشأة كريمة، وهمة عالية تكافآ فيها.. إلا أن الدكتور المانع أكثر مرحاً، وأكثر تأليفاً.. وتنافسا في الهِمَّة العالية، ونالا الأطروحات العالية من بلدان العالم الغربي - بالغين المعجمة - بعد أن نالاها في بلاد العرب (بالعين المهملة)، وتركا أبا عبدالرحمن تحت غُبار شليويح العطاوي والمجماج راعي الأثلة والسكيني وابن جويعد وسعد ابن دُريويش.. إلخ.. إلخ.
* * *
* أشعر بالخجل من الدكتور الهدلق وقد نقلتُ حَفْلَ تكريمِه إلى شقراء على حساب جماعَتيْنا أهلِ شقراء عَمَرها الله وعَمَرَ بلدان المسلمين بالدين والرخاء والأمن.. ومَبْعثُ الخجل أنه مع سُرعة الهمِّ بالعودة إلى الرياض؛ ليمارس كل فرد عمله الرسمي: نسي مُرتِّبو الحفل تسليمَه الدرعَ التكريمي الذي أَرَدْتُه رمز وفاء، وذِكْرى مَوَدَّة.. والمبعث الثاني أن عادة الكسل الثقافي في عصرنا تُحدِّد للمحاضر وقتاً قصيراً لا يستطيع استيفاءَ موضوعه فيه؛ ولهذا اضطُرَّ الدكتور إلى اختصار محاضرته اختصاراً كَمِّياً؛ فكان يقرأ من صفحة أسطراً، ويطمر صفحات.. ولو كنتُ مكانه لاختصرت اختصاراً كيفيّْاً لا كميَّاً ؛ فأستوفي بعض النقاط على مَهَلِ ولو لم أُلْقِ إلا ثلاث صفحات؛ فإذا قيل: (انتهى الوقت): قلت: (وقد قدَّمتُ لكم ما يتَّسع له الوقت الذي حددتموه، والباقي مذخور للقراء).. ولعل الدكتور يحقق لي وعده بأن يُقَدِّم محاضرته لمجلة الدرعية، وقد جَرَّبتُ في محاضرتي مزاحمتي بضيق الوقت؛ فكنت أُقابل هذا الكسل الثقافي بالاسترسال والاستطراد كيفما اتَّفق فإذا انتهى الوقت قلت: (إنما جئتكم منادِماً لا مُحقِّقاً).
* * كان من الحضور أستاذنا سعد البواردي؛ فسطَّر كلماتٍ رقيقة خلاَّبة ألقاها بعد المحاضرة فيها من الثناء على الهدلق ما هو أهلُه ومثلِه معه، وعدَّ الهدلق أباً، وأنا والهدلق في عداد أبنائه مَتَّعَه الله بالصحة والعافية؛ فلما جاء الحديث عن الارتباط بشقراء أدركتني غَيْرة الغِبْطة، والغبطة محمودة في الدين، وهي خير للغابط والمغبوط؛ وإنما المحرَّم الحسد، فتألمَّتُ إذْ أعطى الأستاذُ سعدٌ بضاعتي الدكتورَ الهدلقَ !.. وهل كان لي بضاعة في مُقْتَبَلِ العمرِ إلا أنني ربضتُ في أفيائها أنخل تاريخها وأدبها العامي، وأشحن بها تباريحي، وظللتُ بعد مغادرتي إيّْاها أول شهر صفر عام 1381هـ أفرك صدري على الأرض شوقاً إلى تلك المرابع والمعاهد، وليس لي فيها نشب، ولا مَضْرِب وتد، ولا عاقلة نسب؛ لأن ثِقَلَ أسرتي التي لا تقل عن خمسمئة بيت في القصيم والحجاز وسدير وحائل والزبير وبعض الآفاق.. بينما كان الدكتور مُشَرِّقاً ومغرباً يطلب العلم ويُعَلِّمه؛ فكان بذلك رمزاً علمياً من رموز شقراء؛ فَنَفَّسْتُ عن غيرة (الغِبطة) بكليمة موجزة أسمعتها القوم بأن (العدلَ حبيبُ الله).
* * *
* كان الدكتور منذ كُنّْا في المعهد العلمي بشقراء مُتَقدِّماً على جميع أبناء جيله في الوعي الأدبي والسياسي أيام عنفوان الناصرية، ولما كنتُ مَعْنِيّْاً بمثل (أوَّل كلامي طلبتي ذكر الله) كان وعيه ممتداً إلى آفاق أرحب.. وكنت معنياً بحفظ المعلقات من غير فهمِ معانيها؛ فكان نسياني لها أسرع من حفظي الشاق، وما كنتُ أعرف عن أمير الشعراء أحمد شوقي غير مختارات قليلة في النصوص الأدبية المقرَّرة؛ فآخر عهدي بها قبل الامتحان النهائي، وما أعظم إفلاسي تجاه النصوص المقرَّرة؛ لأنني جُبِلْتُ على القراء ة الحُرَّة، وقَلَيْتُ كلَّ منهجٍ إلزامي، وما عرفت شوقي إلا بعد انضمامي إلى الظرفاء في الرياض وخارج المملكة لمَّا تولعتُ بمثل (وُلِدَ الهدى)، و(إلى عرفات الله)، و (سلوا كؤوس الطِّلى)، و(سلوا قلبي).. الخ.. ولكنَّ الدكتور جَرَّ فُضُولي - من حيث لا يشعر - إلى مَن هم واسطة العِقْد بين شوقي وشعراء الحداثة من خلال قصيدتين سمعتهما منه للأخطل الصغير وسليمان العيسى، فحرصتُ على دواوينهما (مع شُحِّ الموارد) حتى تملكتهما، وسَهُل عليَّ فهمها بخلاف المعلقات، وعشتُ معها عشقاً أدبياً لا عشقاً مَطْربانياً كما في (سلوا كؤوس الطِّلى هل لا مستْ فاها)، ثم هجرتها لما وقعتُ في شُبَّاك الرومانسية إلى هذه اللحظة.. شباك إبراهيم ناجي من العرب، وشباك بلزاك وورد زورث وجوليا المسلولة في رواية رفائيل للامرتين من الخواجات.. وكان في شبابه جميل الإلقاء، عذب النبرة، ولا يزال يتمتع بحافظة جيَّدة.. أسبغ الله علينا جميعاً نِعَمَه الظاهرة والباطنة، وأتمَّها وأدامها.
* * منذ تخرَّج وعاد إلى المملكة انغمس في التعليم، وخَرَّج أجيالاً جَمَّر لها من أُلُوَّته.. ولكنه حَرَمَ القراء من التجمير سوى أبحاث بعيدة المنال استوفى سردَها مُلْحقُ هذه الجريدة (ملف المجلة الثقافية) العدد 286 في 11/ 6/ 1430هـ ولاسيما ما كتبه من مواد للموسوعة العربية العالمية، ولقد وعدني الدكتور محمد خير البقاعي - امتداداً لعادته الجميلة - أن يجمع لي كل ما نشره الدكتور من أبحاث.
* * * الدكتور كما وصفته (سفط مشحون) بأَلُوَّة عَبِقَة غير مُجَمَّرة، وأَلُوُّة جَمَّر منها لطلابه، وهي بلغة الفلاسفة (وجودٌ بالقوة، وهو ما في السفط لم يُجَمَّرْ بعد.. ووجود بالفعل، وهو ما تم تجميره).. وعندي يقين أن العمل الرسمي الجديد سيبتلع الدكتور؛ فلا يفرغ للتجمير؛ فعلى رفيق دربه الدكتور المانع أن يَلُمَّ شتات آثاره في (مجموعة أعمال الهدلق) تصدر عن كرسيِّه، ولن يعصيَ الدكتور الهدلق له أمراً.
* * * آخر ما في هذه المداخلة العاجلة: أن الدكتور الخويطر، والدكتور المانع، والدكتور الهدلق نسيج واحد حَوَّلوا علمهم الخواجي إلى خدمة التراث، وما سمعت واحداً منهم يتشدَّق بلغة خواجية في المجالس؛ ليغيظ مثلي ممن قَصَّر جهدهم عن هذا الامتداد الثقافي، وتلك والله خصلة نبيلة.. جعلني الله وإياهم وجميع القراء هداة مهتدين، مباركين أينما كُنَّا، وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله، والله المستعان.