سن التقاعد في الثقافة الغربية، هي سن بداية الحياة والتفرغ للنفس واكتشاف الثقافات الأخرى، من خلال السفر والتنقل والقراءة، وممارسة الهوايات التي لا تحدها ساعات الدوام ولا روتين العمل اليومي. لذا يفرح الغربيون بالوصول إلى سن الستين، فهم بهذا العمر ينطلقون إلى أنفسهم، ويتفرغون إلى “الحب” الذي رافقهم طيلة مشوار الحياة، وآن الأوان للعطاء والرعاية ما بين الزوجين. فرحة الغرب بهذه السن تترجمه الاحتفالات التي يعقدونها ابتهاجاً وترحيباً بسن التقاعد، شاهدت كثيراً من الصور والكلمات الجميلة عبر مواقع إلكترونية أو في الفيسبوك لنماذج من هذه الاحتفالات. بل وأتابعهم عن قُرب في رحلاتي وسفرياتي التي استمتع من خلالها باكتشاف الشعوب والاستفادة من إيجابياتهم، وكم لاحظت في صوالين التجميل سواء في أوروبا أو أمريكا كثرة النساء الكبيرات في السن واهتمامهن بالمظهر والتجديد، وهذا يعود لأنها وصلت إلى سن تتفرغ فيه لنفسها وجمالها وتحافظ على مظهرها أمام زوجها حبيبها وأمام الآخرين، بينما في ثقافتنا المرأة وقبل أن تصل إلى منتصف الأربعين يتم انتقادها إن حافظت على شكلها وقامت بتجديده، وما أكثر من جملة “يا عيباااااه عجوز تتشبب” وكأن هذا عار أو عيب، وكأن عليها أن تُهمل شكلها استعداداً للقبر!
هكذا هي ثقافتنا العربية تختزل النظر إلى سن التقاعد وكأنه مرحلة التفرغ لانتظار الموت، ونهاية تاريخ صلاحية الإنسان، حيث لا حياة يجدها ليعيشها، ولا ممارسات يستطيع من خلالها النظر إلى هذه السن كمرحلة جديدة من حياته تكون هي الأجمل. إذ يجلس المتقاعد في بيته ويفقد روتين حياة عاشه طوال أربعين عاماً أو أكثر أو أقل، لا شيء يفعله، بل سيظل من حوله يذكرونه دوماً بهذا إلا من رحم ربي، وأنا هنا لا أتحدث عن حالات معينة، إنما حديثي ناتج عن ثقافة مجتمعية لا تنظر إلى الإنسان كقيمة، في رؤية غير مستقيمة، لذا للإنسان تاريخ صلاحية ضمن هذا المفهوم، مع أنه لو نظرنا إلى أنفسنا كمجتمع إسلامي فإن هذه النظرة تتعارض مع الدين، الذي لم يحدد لا من قريب ولا من بعيد تاريخ صلاحية للبشر، إنما حث الحديث الشريف على العلم من المهد إلى اللحد، والآية القرآنية: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة 105). هذه الأدلة وغيرها الكثير، هي تأكيد على أن الإنسان لا يمكن تحديد صلاحيته للعمل بحسب سنه، إنما من وجهة نظر شخصية أقترح أن يكون تحديد سن التقاعد حسب عطاء الشخص، فلماذا شخص خامل لا يُقدم أي شيء سوى الدخول والانصراف حسب مواعيد الدوام أن يستمر في العمل إلى سن الستين؟ هذا من الممكن تقديم موعد تقاعده إلى منتصف الأربعين مثلاً. في حين أن الموظف النشط المنتج، يتوقف في هذه السن حسب الأنظمة، هذا الشخص المُنتج يُفترض أن لا نضع له سن تقاعد - مطلقاً - بل يظل ويستمر في عطائه، لذا فإن تحديد سن التقاعد للجميع - سواسية - فيه إجحاف وعدم تقدير، وكذلك عدم تمييز بين الإنسان المُنتج وعكسه، وأظننا في مرحلة تحتاج إلى جميع السواعد والعقول المعطاءة دون النظر لا إلى سن ولا جنس!
لذا منذ فترة وأنا أفكر بعمل يعيد هؤلاء إلى الواجهة دون أن يمسوا عمل الطاقات الشابة القادمة, ونستفيد من خبراتهم دون المساس بقواعد العمل, خصوصا أن مجتمعنا يفتقر لمقومات الحياة بالنسبة للمتقاعدين, وأعتقد أن فكرتي التي سأطرحها في مقال الغد ستروق كثيراً لآبائنا المتقاعدين.
www.salmogren.net