“الهيئة تضبط فتاة مبتثعة تقود سيارة بعد أن كشفها حادث مروري شمال الرياض” .. هكذا ورد عنوان نشرته “ام أس أن” على صفحتها الرئيسة بالخط العريض. عنوان سيقرأه كل متصفِّح للإنترنت وسيطلع عليه القاصي والداني في العالم.
واستطرد الخبر: “تمكنت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من ضبط فتاة مبتعثة وهي تقود سيارة شمال العاصمة الرياض وذلك بعد أن كشفها حادث سير وقع لها قبل يومين. وتعود تفاصيل الواقعة عندما كانت الفتاة تقود سيارة الأسرة من نوع (هوندا) وبرفقتها امرأتان، ولكن لسوء حظها وقع حادث مروري كان السبب في كشف هوية الفتاة ومن معها. ومن جهتها باشرت فرقة من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الموقع، وقامت بتحرير محضر بالواقعة وأحالته إلى الجهات المختصة لاستكمال الإجراءات القانونية بحقهن ...”
“وباستخدام مصطلحات مثل “ضبط”، و”تحرير محضر”، و”واقعة”، كيّف الخبر ووضع في رأس قائمة الأخبار وكأنه أمر خطير متعلّق بجريمة كبرى لا بأمر بسيط أو مخالفة. وبالطبع، مخالفة الفتاة لأمر المنع أمر يؤسف له، ولكن بالمقابل لم يورد الخبر سبب اضطرار هذه السيدة للخروج بالسيارة، ولا ظروف وملابسات ذلك، أو وجهة نظر الفتاة في الإقدام على القيادة بنفسها. والسيارة على ما يبدو معتمة بالكامل ولم يعرف قائدها (قائدتها) إلاّ إثر الحادث، أي أنّ المرأة متسترة بالكامل داخل هذه السيارة مثلما تتوشّح باللباس الإسلامي وهي تسير على قدميها في الشارع. والمشي كما هو معروف صنو الركوب، فعندما أوقفت كانت على ما يبدو بكامل حشمتها ومع زميلات لها. والمرأة عندما تتعرّض لحادث حتى ولو سارت على قدميها فلها العذر فيما لو سقط شيء من حجابها اضطراراً، والواجب على من حولها غضّ الطّرف عنها.
هذه السيدة بلا شك كانت تقود سيارتها بكل كفاءة وتمرُّس في مقر بعثتها بكل أمن وأمان، دون أن يعترضها أحد في مجتمع يعتبره بعضنا مجتمعاً كافراً وبلا أخلاق. وبما أنها تعلّمت القيادة، في مجتمع يلتزم الأنظمة والأصول المرورية، فلا بد أنها كانت تقود سيارتها في مشوارها غير الموفّق في الرياض حسب الأنظمة والأصول، لا كما يقود بعض شبابنا وسائقينا بمنتهي الفوضى والخطورة. فإذا كانت كذلك، متسترة وتسوق حسب قواعد المرور وأصول السلامة، فالضرر من قيادتها لا يتجاوز مخالفتها لنظام حظر قيادة المرأة الذي يوجب تحرير مخالفة بحقها. والملاحظ في الآونة الأخيرة تكرار مثل هذه الحادثة، مما يوحي بأنّ النساء بدأن يظهرن عدم ارتياحهن من منعهن من القيادة في ظل ما يمكن اعتباره أزمة سائقين، وفي ظل عدم توفر وسائل أخرى لنقلهن.
نحن نعيش في مجتمع تطوّر وتغيّر كثيراً، مجتمع تقارع فيه المرأة الرجل في كافة المجالات إن لم تتفوق عليه. مجتمع تمارس فيه المرأة الأعمال، وتعمل فيه طبيبة، وجرّاحة، ومعلمة، ومهندسة. ليس ذلك فحسب بل شغلت مؤخراً مناصب قيادية، فعملت كنائبة وزير، ومديرة جامعة، ودخلت إلى دائرة التشريع والرقابة عبر مجلس الشورى الذي نختار فيه الصفوة من المجتمع لنستشيرهم، فوصولها لهذه المراكز يجعل من ضبطها لو قادت سيارة في الشارع، سيارة معتمة وبلبس محتشم، محل استغراب من لا يعرف مجتمعنا عن قرب، ولذا أبرز الخبر أعلاه في أول عناوين “أم، إس، إن”.
إعادة النظر في موضوع قيادة المرأة للسيارة أصبح ضرورة وليس ترفاً، فنحن المجتمع الوحيد الذي يحظر قيادة المرأة. كما أنه من الناحية الشرعية، وحسب رأي كثير من العلماء، لا اعتراض شرعياً عليه في حد ذاته، ووجه الاعتراض، هو في واقع الحال أمر احترازي، من باب سدّ الذرائع، وخوف من مجهول من أمر الغيب لم يجرّب، ويتمثل في الخشية من إساءة بعض الرجال لبعض النساء لو سمح لهن بقيادة السيارة. والسبب الآخر الذي لا يمكن فهمه مطلقاً، هو النظرة التي تبالغ في تبجيل المرأة وتراها كجوهرة يجب تغليفها وإبقاؤها في المنزل حفاظاً عليها، جوهرة كجماد مجرّدة من الإنسانية شأنها شأن الأشياء النفيسة التي نحتفظ بها في صناديق الودائع. وكلا الرأيين، على ما يبدو تجاوزهما الزمن، وأصبحنا نعرف أكثر من ذي قبل أنه نتيجة للتطوّر التقني للمجتمعات، أصبح من المستحيل أن نحصن نساءنا بمحاصرتهن والتضييق عليهن، وأن التحصين الحقيقي يكون في التربية الفاضلة والعلم الحقيقي، التربية التي تعتمد الثقة أساسًا، والفهم مدخلاً, فالمرأة لا تختلف عن الرجل في شيء وإن حدثت إساءة لها فهي لا تأتي إلاّ من رجل، وحتى لو خانت لا سمح الله فهي لا تخون إلاّ مع رجل.
وبما أننا بصدد الرجولة، فالرجولة تختلف عن الذكورة، فالرجولة أخلاق ومروءة ومواقف تتطلّب من الفرد الكثير من الأخلاق والالتزام، أما الذكورة فهي وضع فسيولوجي يولد به الإنسان ولا يد له فيه. وكان العرب يقيسون المروءة بالتعامل مع المرأة بالدرجة الأولى، فمن يضرب امرأة، أو يهين امرأة يعتبر رجلاً بلا مروءة، أي ذكر فقط وليس برجل. وكان أسلافنا، إذا كنا نريد اتباع منهجهم، يعاملون المرأة حتى ولو كانت سبية أو أسيرة بمنتهى المروءة، يعاملونها كجوهرة آدمية لا جوهرة جامدة خالية من الإحساس. ناقشت المرأة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، واعترضت على الخلفاء، وقادت الجيوش، وجهّزت للجهاد، وكانت تركب الدواب وتسير في الأسواق، ولم تكن تتعرّض لأي مضايقة أو إيذاء لأنّ أسلافنا لم ينظروا للمرأة على أنها فتنة لهم فقط، بل رأوا أن واجبهم هم أن يغضّوا البصر عنها. فهناك اقتناع يتزايد اليوم بضرورة إتاحة الفرصة للمرأة بالعمل، والكسب الشريف لتحس بكرامتها واكتفاءها، ولنحفظها من شرور الفقر والفاقة، والسماح لها بالعمل يتطلّب السماح لها بالحركة من وإلى العمل.
التحوُّلات الاجتماعية قد تصبح ضرورية بل وحتمية أحياناً، وهنا يكون الإقدام عليها بنوع من التدرُّج والتخطيط والثقة أفضل من التأجيل والتردد. فثقة المجتمع في نفسه عامل أساسي في سيطرته بشكل منظم ومحسوب على تطوُّره الاجتماعي، و كثيراً ما أدركتنا التحوُّلات الاجتماعية بصورة متأخرة ننظر بعدها للماضي بابتسامة التعجُّب والاستغراب مما كنا عليه. تكرر ذلك عند إدخال التلفون للمنازل، وبدء بث التلفزيون. وفي بدايات تعليم المرأة، كان من بيننا من اعتقد أنّ الهدف من فتح مدارس للبنات هو إفسادهن، ولكنه اليوم يركض وراء إدخال ابنته للجامعة أو تعيين زوجته معلمة. فهل يتخيّل أحد حالنا لو لم يفرض تعليم البنات في مجتمعنا؟ لا يجادل عاقل في أنّ قيادة المرأة لسيارتها بنفسها أخف ضرراً وأكثر تماشياً مع شرع الله من أن يختلي بها سائق لا يعرف له أصل ولا فصل.
وإذا اقتنعنا أنّ قيادة المرأة للسيارة اليوم أصبحت ضرورة فالضرورة تبيح بعض المحرمات أيضاً. فضلاً عن أنّ إتاحة المجال لأن تقود سيدة فاضلة محتشمة أطفالها لمدارسهم، أو تقود نفسها لعملها معزّزة مكرّمة، خير من أن تقاد بوافد قد يكون بعضهم من أدني الطبقات في مجتمعه، وافد قد نعذره لو نظر للمرأة الغريبة عليه والتي لا تمت له لا بقربى ولا مواطنة نظرة غريزية، ولكننا لا نعذر المواطن الذي تربّى تربية إسلامية ونشأ في مجتمع الخير والوفرة، أن يحصر نظرته لها في ذلك فقط. فقد آن الأوان لتثقيف المواطن وإعداد المجتمع لتقبُّل قيادة المرأة للسيارة لأنّ الحاجة لذلك تزاد يوماً بعد يوم، وسننظر يوماً لمنعهن من القيادة بالطريقة نفسها التي نظرنا بها لحظر كثير من الأمور في السابق بدافع عدم معرفة العواقب.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif