ليت عبدالله القصيمي، صاحب نظرية أننا ظاهرة صوتية حاضراً ليلة الثلاثاء الماضي في آخر ليلة من ليالي المعرض الفني المقام في قاعة نيارا في العاصمة الحبيبة الرياض لعدد من الفنانين ويري بأم عينيه مجموعة عين رأت ولمسات الفنانة شريفة السديري المبدعة وجهود الفنانة أسماء الدخيل ومجموعة الفن النقي
بإبداع أضواء بنت يزيد وذائقة غيداء العثمان في كبريائها وهي ترسم لوحات الكبرياء على أنغام فاروق شوشة ليتراجع القصيمي عن صرخته كبرياء التاريخ لا يزال في مأزق، لأن من يطلع بعينيه على الفن السعودي يدرك أننا لم نعد ظاهرة صوتية فالتعبير الصامت والصوت الهادئ بلاضجيج شاهد على تبليغ رسالتنا الإنسانية في ذلك المعرض الفني المذهل، الذي يثبت أننا تجاوزنا كل الأشكال والبراويز لأنها، كما قال أدونيس هي القبور، فلم نعد معلبين وخائفين ومتوجسين ومنغلقين، بل لشبابنا بصمة، بل بصمات في مسيرة الحضارة كما كان لأسلافهم، شبابنا يتحركون في الممكن بثقة وحقهم ذلك لأن الاستقرار المعلب هوالموات ومكانه تلك القبور التي تحدث عنها أدونيس..
الفن هو الذي حفظ لنا حضارات الأمم السالفة، وما رسمته تلك الأصابع بالجص على جدار المعابد والكهوف هو الشاهد الحقيقي على تلك الحضارات ولولاهم لأصبح نسيا منسيا في مجاهيل التاريخ، ولذلك كان حقا على المجتمعات المتمدنة أن ترعى موهبة فنانيها لأنهم عصافيرها التي تغرد بألحانهم على أغصان الدنيا ابتداء من الغابة الكثيفة وشرائعها حتى المدن وخرساناتها المسلحة، عصافير الحضارة الإنسانية التي فشلت كل قوى الفوهرر هتلر وموسليني أن تنجح في ضمهما كفنانين وروائيين وأدباء إلى عالم الكلمة اللطيف وأسرار الألوان المخيف، ولا أدل على حسن ذوق الأمم وتمدن الشعوب وحراكها الذي لا يحتقر الكلمة واللون والفرشاة والمرسم والمعرض ما فعله الشعب الأسباني بعد حكم الدكتاتور الجنرال فرانكو لزمن طويل، أدخل العباد والبلاد في حروب أهلية كان ضحيتها الأدباء والفنانين والمفكرين، وحينما أعيدت إلى أسبانيا لوحة بيكاسو جيرنيكا التي صورت تلك الحروب وضحاياها من الشعب الأسباني العريق، أصر الأسبانيون على تغيير الشارع من شارع الجنرال فرانكو إلى شارع بابلوبيكاسو، فانتصراللون على المسدس، وانتصر الفكر على الاستبداد، وانتصرت الكلمة الصامتة على الظاهرة الصوتية التي وصمنا بها القصيمي ذات يوم بائس...
كان قدري وأنا أغادر المعرض في تلك الليلة التي زهت ألوانها بشبابنا السعودي الطموح أن أقف أمام لوحة الفنانة غيداء العثمان وقد كتبت بهامشها عبارة: “إلى المعذبين بالحقيقة.. وأولهم أنا” ولا أخفيكم أذهلتني بما تحمل من اختصار للصراع والبقاء، والهواجس المسكوت عنها، والأسئلة المحرمة، والمحذوف من حياتنا التي تربع عليها أنصاف المثقفين، فأصبحوا يديرونها بطريقة مقززة لكل ذائقة، عبارة أكبر من طلاء وبرواز تحس أمامها أن هناك معذبين صامتين، لم تسعفهم الظاهرة الصوتية، واكتفوا بما في عيونهم الجميلة من ذهول يستدعي الشفقة عليهم، وربما ماتوا من تلك الحقيقة ولم يكشفوا سرها لمخلوق، وبخاصة أننا مجتمع معقد لا يسمح لأفراده بالبوح إلا في ظل الأسماء المستعارة، فالخوف من كل شيء ولا لشيء، ويرقبون المشهد باستغراب لا يقل عن استغراب القصيمي ذات يوم عن صمت الكتاب والشعراء في رسالته لإنسي الحاج حينما طرد من بيروت فأجابه إنسي: إن هذا لاستغراب يجعلني أضحك، فماذا يستطيع الكتاب والشعراء أن يفعلوا غير أن لا يفعلوا شيئا!!!
عبارة تدلك على من أمامك وكأنها مقدمة لناقد عن شاعر أو فنان، تجبرك أيها القارئ على أن تكتشف بنفسك من ذلك الإنسان بصورة تشبه إلى حد التطابق مع كتب الماغوط ذات يوم عن الشاعرة نازك الملائكة، ليكتشف قارئها “حزن في ضوء القمر” وما يكتظ به عالمها من كائنات في مدن أشبه باطلانطس الغارقة وبيلارس المدمرة...
إن المؤلم حقا حينما ترى جماهير الناس والسواد الأعظم يتجمهرون لمشاهدة مباراة في كرة قدم أو أمام مزاد على ناقة بملايين الريالات، وترى في المقابل زهدهم في زيارة مثل معرض نيارا في الرياض وغيره من المشاهد الثقافية والأمسيات الشعرية، والمخجل صدقا أن تراهم يتسابقون بدفع ملايين الريالات من أجل ناقة ويزهدون في شراء لوحة فنية تحمل في طياتها التمدن والحضارة ولو من باب تشجيع هذه المواهب السعودية الأصيلة، كارثة ثقافية حينما يحبط المؤلف والأديب والفنان في أمة الفكر والإبداع والموهبة، ولازالت مؤسسات الدولة أعزها الله بميزانياتها الضخمة عاجزة عن شراء لوحة أو كتاب أو إقامة معرض بحجم معرض نيارا، ويكتفي الشباب في ظل عدم الرعاية الحقيقية الرسمية بجمع التبرعات بطرق شخصية لا تخلو من حرج المثقف وحياء محترف الكلمة واللون...
إلى شبابنا الطموح... هنيئاً لنا بكم على تلك الرسالة السامية والعبارة الخالدة: “إلى المعذبين بالحقيقة... وأولهم أنا”، والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com