قبل مدة ليست بالبعيدة كان الصراع الإعلامي على أشده بين مراكز المال الخليجية. فكل من كان له «مصلحة عمل» بمدينة معينة يقوم بمراضاة منسوبيها بالظهور الإعلامي والزعم بأن مدينة بعينها ستصبح عاصمة الصيرفة الإسلامية بالخليج. حتى إحدى عواصم المملكة تم الزج بها من قبل هؤلاء المنتفعين الذين يتم دعوتهم لحضور مؤتمرات تحت ضيافة الجهة المنظمه هنا. فهم كانوا يعرفون أن هذا التصريح سيبرزهم إعلاميا في الصحافة المحلية عندنا. فصناعة الصيرفة الإسلامية بالسعودية لا تزال تتخلف عن الركب الخليجي من حيث التشريعات التنظيمية التي تيسر عمل المؤسسات المالية الإسلامية هنا.
خليجيا وفي ظل المعطيات الحالية لا تزال دبي, بفضل مركز دبي المالي الدولي (DIFC ) تتسيد على قريناتها. حتى الشركات الأجنبية من الصين وغيرها تستطيع إدراج أسهمها وسنداتها. هذا بخلاف الجوانب القضائية التي تنظر في المرافعات القضائية حول تعثر الشركات عن سداد ديونها. فمن دبي تأسس أول بنك إسلامي حديث في تاريخنا وذلك في عام 1975. ليس هذا وحده, فقد أصبح «بنك دبي الإسلامي» سفير الإمارات بعد أن نشر شبكة فروعه في باكستان والأردن والسودان.
أما المنامة فقد كانت «عاصمة المال» الإقليمية «سابقا» قبل أن تتنازل عن عرشها قبل بضع سنوات. وفي التسعينات كانت بيروت التي ملئت هذا الفراغ في المنطقة من حيث تقديم الخدمات المالية. فالبحرين تشتكي الآن من انخفاض معدل الصفقات المالية وذلك على إثر الأحداث التي جرت مع مطلع السنة الماضية. القادم الجديد على الساحة هي الدوحة بفضل مركز قطر المالي ( QFC) . فقبل عشر سنوات مضت كان لا أحد يجادل بأن البحرين هي العاصمة الفعلية للمالية الإسلامية بالخليج. فاحتضنت أبرز مراكز التدريب والتشريع مثل هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية. فبنكها المركزي سبق جميع البنوك المركزية الخليجية عبر إصدار الصكوك في الوقت كان الجميع يميل نحو إصدار الأدوات المالية التي لا تلتزم بالشريعة.
لازلت أتذكر مقالا رائعا كتبته صحيفة التايمز قبل خمس سنيين عن المكانة العظيمة التي كانت تحتلها المنامة في القطاع المصرفي. يقول كاتب المقال: «قبل فترة طويلة من التفكير في تصميم طائرة إيرباص من طراز A380، وقبل نحو 32 سنة من الإقلاع في الرحلة الأولى لطائرة الجامبو الفائقة في الأسبوع الماضي، صعد أول الركاب في مطار هيثرو على الرحلة التجارية الأولى لطائرة الكونكورد الجذابة الناعمة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. وحين نتذكر أن البحرين، وليست نيويورك أو كيب تاون أو موسكو، هي التي حازت على شرف أن تكون وجهة أول رحلة تجارية على متن طائرة الكونكورد، فإن ذلك يعتبر شهادة على العلاقات والروابط التجارية العريقة بين لندن وبلدان الخليج. ولكنها تذكرة على مقدار التغير الكبير، وكذلك على مقدار الأمور التي لم تتغير، خلال العقود الثلاثة السابقة. لو أن الرحلة الأولى للكونكورد كانت في هذه الأيام، فإن دبي ستكون على الأرجح هي وجهة الرحلة إلى منطقة الخليج.»
فقصة كفاح دبي تستحق الإشادة. كيف لا وهي الحاضنة غير المتوّجة لصناعة الصيرفة الإسلامية في الخليج. فدبي تتمتع بطموح جامح مكلل بقيادة مالية إقليمية. فمن مدينة صحراوية في أوائل السبعينات إلى العاصمة الاقتصادية لدولة كاملة (إن لم تكن لخليجنا كله). فاسمها أصبح على كل لسان أعجمي. فقد أصبحت دبي على الأجندة السياحية لهؤلاء الأعاجم. فهم يمنون النفس زيارتها ورأيت عجائبها عندما يجمعون السيولة اللازمة لذلك. بل أصبح طلابنا الخليجيون يُعرفون جغرافيا بموقع مدنهم بالقول إنهم يعيشون بالقرب من دبي. لعل ما يميز هذه الإماره هو كيفية نجاحها في عدم اعتماد دخلها على النفط بخلاف الآخرين. فاقتصادها يعتمد على العقار والتجارة والخدمات المالية.
يكفي لنا أن نضرب مثلا بقوانين الحماية من الإفلاس التي تم إقرارها قبل ثلاث سنوات. حيث تم إنشاء محكمة الحماية من الإفلاس بمركز دبي المالي العالمي. وتم دمج قوانين متعددة تم استلهامها من القوانين الأمريكية والبريطانية.
فالعبرة هنا هو أن إقامة المراكز المالية يفترض أن يواكبه حراك ونشاط في الجوانب التنظيمية والتشريعية والقانونية التي تيسر عمل المؤسسات المالية الإسلامية سواء في أسواق المال أو إدارة السيولة. وإذا كنا نفتقد للخبرة في هذا الجانب فليس هناك أي ضرر من أن نطلب العون من إخواننا الماليزيين الذين سبقوا خليجنا بمراحل.
mkhnifer1@gmail.com*مراقب ومدقق شرعي معتمد من (AAOIFI) ومتخصص في هيكلة الصكوك وخبير مالية إسلامية لمجموعة «ادكوم آكادمي» المصرفية في الولايات المتحدة الأمريكية.