كل مدينة تحاور زائريها بلغتها الحضارية الخاصة.
زرت عشرات المدن شرقا وغربا شمالا وجنوبا في القارات الخمس تحاورت معها ثقافيا وحضاريا, وربما أشعرتني بالغربة نفسياً. ولي بينها مدن مفضلة أسعدتني بذكريات تبتهج بها التأملات حين أستعيدها.. ثم روحيا أجد نفسي فعلا أنتعش في إطاري الخليجي: تعيدني طراوة رطوبة السواحل لطفولة مشاعري فأهطل شعرا, وتلهمني رمال الصحراء الخالدة مستثيرة تأملاتي فأحاورها فكرا.
لعلي أول مواطنة تحمل الدكتوراه قررت ألا تعمل في جامعة أكاديمية -بعد أن صدر قرار تعييني من الوزير الشيخ حسن آل الشيخ رحمه الله لإدارة القسم النسائي في جامعة الملك فيصل بالدمام- بل تختار التوظف في شركة صناعية تطلب مهارات مهنية.
ولعلي بقراري سببت تأزمات فكرية وعاطفية لبعض مدرائي غير المواطنين في المرحلة الأولى, ولواحد فقط من المدراء المواطنين في ما بعد مرحلة السعودة. أقول: لعلي! والحمد لله أن من حملوا تفكيرا متحيزا ضد فئة النساء كانوا قلة؛ أو لعلي لم أحس بهم. وأحمده أكثر أنني لم أكن بطبيعة تنشئتي وتجربتي حساسة لمشاعر التحيز ضد المرأة , ولذلك انصب اهتمامي على أداء عملي بأفضل قدراتي, لا على متابعة رؤيتهم لي, أو توقعاتهم مني كامرأة بغض النظر عن تأهيلي.
أحببت الظهران وارتحت فيها: مدينة جسدت لي معنى الوطن لأكثر من ربع قرن في أفياء أرامكو السعودية. عايشتها مواطنة وزوجة وأما وربة بيت وموظفة؛ وعانيت في تعاملاتي فيها تقلبات أجواء الوطن وانعكاسها في الإدارة, وشجون السعودة وهموم التدريب ودراسة متغيرات المجتمع ومتطلبات التنمية.
الظهران بئر الخير المبشرة بالعطاء وحوار المحبة والانضباط! تجمع التقنية الحديثة ومواكبة المتغيرات العالمية والمحلية اقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسياً. مدينة جميلة تجمع بين ربوعها فرص التدريب والعمل والابتعاث والأمن ومتعة الحياة, في بيئة مهنية متطورة الحضارية, وبيئة مجتمعية راقية التعامل. أحسها بيئة متعلمة ماهرة متدربة جميلة ولكن ثقتها بنفسها لا تنبع من جمال جسدي بحت تملكه, بقدر ما تنبع من ثراء علمها وقدرتها على ممارسة المواطنة الكاملة، ولذلك فهمتها وفهمتني. وحين تفاهمنا, أحبني الوطن.. وأحببته!