كتبت في المقال الماضي نبذة عن مراكز التفكير أو ما ترجمه البعض بمراكز الخزن الفكري، وانتشارها في كثير من دول العالم، مستنداً إلى التقرير المتعارف عليه عالمياً في تصنيف هذه المراكز، والصادر عن جامعة بنسلفانيا. هذا التقرير أشار بوضوح إلى التوجهات العالمية في شأن إنشاء مراكز التفكير (Think Tanks)، وفند مسبباته التي أشرنا إلى بعضها سابقاً، كما أوضح أن دور هذه المراكز يتعاظم، ليس فقط من ناحية أعدادها بل من ناحية تأثيرها وتعدد وتنوع أدوراها. لن نستعرض جميع ما جاء في التقرير، لكن نقدم بعض الملامح من ذلك التقرير، كمعلومات تبيّن لنا موقعنا في هذا المجال، كما تمنح للقارئ المهتم معلومات عامة.
أحد الجوانب التي أشار إليها التقرير هو تناقص الدعم الحكومي لتلك المراكز، واعتماد كثير منها على دعم القطاع الخاص والتبرعات. واللافت هنا هو الإشارة بوضوح إلى أن المراكز الغربية أصبحت تستفيد من الداعمين من خارج الولايات المتحدة وأوروبا، وتحديداً من دول آسيا ودول النفط الغنية بالشرق الأوسط كدول الخليج العربي، سواء الدعم من المنظمات والحكومات أو الأفراد الأغنياء بالمنطقة.
لا شك أن الاستعانة بجهات علمية موثوقة لإجراء دراسات تخصنا أو تسهم في أي شأن من شؤوننا تُعتبر أمراً جيداً في ظل نقص أو تواضع إمكاناتنا البحثية والعلمية والتنظيمية لمثل هذه الأمور، لكنه أمر مؤسف ألا يقابل ذلك دعم وتحفيز لإنشاء مراكز مماثلة ببلادنا، ومنحها المظلة التشريعية المناسبة لطبيعة عملها واستقلاليته.
مؤسف أن جل أبحاثنا ترتكز على بحوث تطبيقية أو بحوث أهدافها النشر والترقية، ولا يوجد لدينا دراسات ولقاءات معمقة، تساهم في تطوير مختلف السياسات في مختلف المجالات. هذه المراكز العالمية تتنافس في مجال الحصول على الموارد، وفي مجال تسويق منتجاتها وأفكارها، ونحن للأسف خارج سياق المنافسة أو على هامشها. نكتفي بالدعم لبعضها، ويا ليتنا نستفيد بشكل أمثل من مخرجات هذه المراكز المتقدمة عالمياً!
العصر الذي نعيش فيه يتسم بضخامة المعلومات وتزايد المواضيع التي يناقشها، وزيادة تضارب المصالح والتنافسات بين مختلف الأقطاب والمؤسسات على مختلف المستويات؛ وبالتالي يمكن القول بزيادة القنوات المساهمة أو اللاعبين في صنع القرارات المختلفة، وزيادة التنافس على الموارد البشرية والمادية. مراكز التفكير تسهم في مساعدة صانعي القرار على التعامل مع هذه الإشكاليات. كثير من تلك المراكز تتجاوز مجرد نشر الأبحاث التقليدية إلى توفير الرأي المستنير، بل ربما التأثير في القرارات المختلفة.
من الجوانب التي رصدها التقرير هو ما تم تسميته بالمؤسسات غير الحكومية الوهمية؛ حيث أصبحت بعض الحكومات تدعم تأسيس مراكز بحثية أو مؤسسات تفكير غير حكومية وغير ربحية. والوهمية هنا تتمثل في تصنيفها كذلك رغم أنها تدعمها بطرق مباشرة وغير مباشرة. بمعنى آخر أنه قد لا توجد استقلالية لمراكز التفكير، مثلها مثل وسائل الإعلام؛ ما يتطلب - أحياناً - أن تسهم الدول في إنشاء مراكز التفكير حتى تقلص التأثر بالتوجهات السياسية والأيديولوجية التي قد تحضرها بعض المراكز الخارجية. هذه الفكرة تعني أنه ليس علينا فقط انتظار القطاع الخاص ليقوم بشكل مستقل بإنشاء مثل تلك المراكز بل يمكن أن تسهم الحكومة في مثل هذا الأمر بشكل غير مباشر، أسوة بكثير من الدول. الدول تدعم عادة عن طريق جامعاتها وشركاتها ومؤسساتها الكبرى، وعن طريق قادتها الأغنياء، فهل نعجز عن فعل ذلك؟
نكمل الموضوع حول مراكز التفكير في مقال الأربعاء.
malkhazim@hotmail.comلمتابعة الكاتب على تويتر @alkhazimm