مدينتنا (جدة).. عروس البحر الأحمر، التي جعل منها أمينها الأول الدكتور محمد سعيد فارسي -متعه الله بالصحة والعافية- مدينة (الفن والجمال) في المملكة.. بل (وعاصمته) في شبه الجزيرة العربية، بعد أن نشر خلال فترة أمانته -بين سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي- في (كورنيشها).
وميادينها وأركانها وشوارعها وحتى جاداتها النائية ما يقارب الأربعمائة من الأعمال الفنية والمجسمات الجمالية: المتعددة الأفكار والمختلفة الأحجام.. والبعيدة كل البعد عن (التجسيد) المنهي عنه دينياً.. من منطلق حبه لـ(الجمال)، وعشقه لـ(الفن)، وفلسفته الإنسانية.. في أن من حق الناس جميعاً أن يروه في تلك (الأعمال) و(المجسمات) الجمالية، ويخالطوه، وأن تلتقي به أعينهم صباح مساء، ليتضاعف عشاق (جدة) ومحبوها.. من (الداخل)، ويتزايد قصَّادها من (الخارج).. لرؤية هذه المدينة التي تكتظ أرجاءها بعشرات عشرات الأعمال و(المجسمات) لكبار الفنانين العالميين والعرب والمحليين بحد سواء.. من أمثال: (هنري مور) البريطاني، و(لافونتي) الإيطالي، و(سيزار) الفرنسي، و(هولمان) الألماني، و(مس هيلتون) الفنلندية، وصلاح عبدالكريم ومصطفى سنبل وربيع الأخرس.. العرب، والرضوى والبنجابي والضياء والمظلوم.. من فنانينا المحليين.
لقد أصبحت (جدة) بحق آنذاك.. مدينة الفن والجمال.. المرصعة أرضها وأرصفتها وميادينها بآيات الفن الإنساني في أعلى تجلياته، ولكن مع تعاقب (الأمناء).. الذين خلفوه.. وقد بلغوا ستة مع تفاوت أنصبتهم في تقدير (الفن) عموماً، وفلسفة رؤياه في الشوارع والميادين.. خصوصاً، كانت أعداد تلك الأعمال الفنية الرائعة.. تتناقص، بحجج واهية.. كتوسعة الشوارع، والتقليل من الميادين.. تسهيلاً لمرور السيارات واستيعاب كثرتها وازدحامها، ولست أدري -على سبيل المثال- كيف استطاع (مايور) أو أمين مدينة (لندن) المزدحمة بستة عشر مليون مواطن ومقيم وسائح أن يحتفظ بمجسم (البيكاديللي) الشهير في موقعه من نقطة تقاطعه مع شارع (ريجنت استريت).. إلى يومنا هذا!؟ دون أن يفكر هو أو أي من سابقيه في إزالته من موقعه.. خدمة لـ(التكاسي) والسيارات الخاصة والحافلات اللندنية بدوريها، ولو فكر في ذلك.. هو أو من سبقوه، لوجد عاصفة.. من الاعتراض عليه، ولكننا فعلنا ذلك -بتفكير أو بدونه- دون وجود حاجة فعلية أو ملحة لذلك.. كـ(إزالة) مجسم الآية الكريمة (وقل ربِّ أدخلني مدخل صدق) على شارع السلام، أو مجسم (سيوف الله) على شارع فلسطين الشرقي، أو.. (مجسم الطائرة) بقاعدته الرائعة.. من السحاب الأبيض، والموج الأزرق.. التي يستحيل إعادتها في شارع الأمير ماجد، وأخيراً.. إزالة مجسم (المفروكة) وميدانه على تقاطع شارعي (التحلية) و(إسماعيل أبو داود)، ويبدو أن موال إزالة الأعمال الجمالية.. سيستمر غناؤه طالما أنه يخضع لرأي أمين المدينة وموظفي مكتبه وحدهما.. أو موظفي الأمانة إجمالاً، حتى تغادرنا تماماً صورة (روما) الفنية الجميلة التي ربما أراد استنساخها الدكتور الفارسي.. على شواطئ البحر الأحمر، لتحل محلها.. جدة (الميلانوية) نسبة إلى مدينة (ميلانو) الإيطالية الصناعية التي يطير في شوارعها كل شيء!!
ولكن.. في سياق استرجاع هذا (الاستئصال) التدريجي للأعمال الفنية والجمالية من شوارع وميادين وكورنيش (جدة).. لابد وأن يذكر -إنصافاً- لرابع أمناء مدينة جدة: المهندس عبدالله يحيى المعلمي (السفير السعودي حالياً.. لدى منظمة الأمم المتحدة).. استبقاؤه لكل الأعمال والمجسمات الجمالية في الشوارع والميادين.. في مواقعها، بل وحرصه على المحافظة عليها.. عندما قام بتطوير (كورنيش الحمراء) إلى أرقى مستوى جمالي عملي، فلم يمس تلك الأعمال الجمالية، التي يحتشد بها متحف الهواء الطلق العالمي.. عليه، وهو ما حسب له بالأمس.. ويحسب له اليوم مجدداً.
* * *
مع قدوم الأمين الحالي الدكتور هاني أبو راس.. الذي جاء في أعقاب كارثة سيول جدة الأولى.. خلفاً للمهندس عادل فقيه الذي أصبح وزيراً للعمل، وقد كان مديراً لمكتبه أو أحد مستشاريه.. تسارعت مع قدومه حركة إنفاذ وإنجاز (كل) مشروعات الجسور والكباري والأنفاق التي بدأت قبله، وتلك التي أُستحدثت في أيامه.. دفعة واحدة في معظم (محاور) جدة الرئيسية.. من الجنوب إلى الشمال، و(العرضية).. من الشرق إلى الغرب.. حتى غدا المرور في شوارع المدينة أصعب من الصعب نهاراً، أما (ليلاً).. فهو أقرب إلى المستحيل أو دونه الاستسلام لضياع ثلاثة أضعاف الوقت المعتاد.. للعبور أو الانتقال من جهة لأخرى، وهو ما أرهق أهالي جدة وسكانها والمقيمين بها، وجعلهم يتندرون ويسخرون.. مما أصبحت عليه حياتهم في “عروس البحر الأحمر”!! بعد أن كانوا يتمنونها ويتسابقون عليها.. وقد ضاعف من صعوبة حياتهم.. وتنقلاتهم فيها من شارع لآخر.. اقتلاع اللوحات التي عليها أسماء الشوارع أو اختفاؤها بحكم الحفريات وضروراتها.. وقد كانت قليلة -أصلاً- بل ونادرة في بعض الشوارع!! لقد آمنت بشكاوى الشاكين.. من صعوبة المرور والتنقل من مكان لآخر -وقد أصبحت على كل لسان- خاصة في المنطقة التي تقع إلى الشرق من (شارع الأمير متعب).. عندما وجدت نفسي أعود إلى منزلي بعد ساعة ونصف من الكفاح في شوارع المنطقة من زيارة لمريض يسكن في (شارع الأمير متعب).. نظراً لعدم تمكني من الوصول إلى أي من الشوارع العرضية كـ(شارع التضامن العربي) أو (غرناطة) حتى أصل إلى شارع (المكرونة).. فتسهل عليّ العودة.
في هذه الأثناء.. ووسط هذه الصعوبات المرورية المتعاظمة في أرجاء المدينة.. وقد جئت على ذكر بعضها ولم أذكرها جميعاً، تم إغلاق مدخل (الكورنيش الشمالي).. إلى ميدان (النورس).. بسبب مشروع لتطوير هذا (المدخل) وتوسعته لرفع قدرته الاستيعابية!؟ ولم يكن في وارد أهالي جدة وسكانها والمقيمين فيها.. تطوير هذا (المدخل)، ولكن المعنيين منهم كانوا يتمنون.. لو أن هذا التطوير بدأ بـ(كورنيش جدة الجنوبي) المهمل والمعطل، الذي يقع إلى الجنوب من (القاعدة البحرية).. بـ(تسهيل) الوصول إليه والارتقاء بخدماته، والعناية بمقاعده ومظلاته، والذي يمكن أن يضيف قدرة استيعابية حقيقية.. تخفف من ضغط المتنزهين القادمين من جنوب جدة إلى كورنيشها (الشمالي) أو إلى (كورنيش الرويس) أو إلى (كورنيش الحمراء)، ولكن هذه (الأولوية) البدهية يبدو أنها لم تخطر على بال (الأمين)، ولا على بال (المجلس البلدي) أو أعضائه.. الذين كنت أتصور أن يكون لهم في هذه المعاناة التي تعانيها (جدة).. بسبب كثرة مشروعاتها وتنفيذها في وقت واحد: (دور) وحضور فاعل.. ليس في أولوية تشغيل (الكورنيش الجنوبي) على (تطوير) مدخل الكورنيش الشمالي، بل وفي ترتيب أولويات إنفاذ مشاريع الجسور والكباري والأنفاق.. بصفة عامة في طول المدينة وعرضها.. أخذاً بمبدأ أولوية (الأهم) على (المهم)، وليس بتركها لهذه (المعجنة) التي اعتمدها (أمين) المدينة ببراءة.. وسكت عنها (المجلس البلدي)، وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد.
* * *
ثم فجأة، هبطت فكرة (إلغاء) إشارات المرور على (الأمين) و(الأمانة)، مع إغلاق فتحات بعض شوارع قلب المدينة كـ(فلسطين) و(الحمراء) و(المعادي).. يميناً أو يساراً، ليبدأ كل منها.. من نقطة بدايته، وينتهي إجباراً إلى (شارع الأندلس).. دون الوصول إلى امتداداتها الغربية، وهو ما أضر بـ(المراكز) الكبرى والمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي التي تقع إلى الغرب من (شارع الأندلس) أبلغ الضرر، دون أن يقرأ أو يسمع أهالي جدة وسكانها والمقيمون بها.. عن أي مقترحات أو اعتراضات أو حتى تأييد من قِبل (المجلس البلدي) وأعضائه لهذه (الصيرورة) أو الأيلولة التي انتهت إليها تلك الشوارع.. بل و(شارع الأندلس) نفسه، الذي أصبح في أعقاب هذه التعديلات العشوائية الجريئة وكأنه (شارع الموت) لكل قاطعيه من المشاة وراكبي الدراجات، بعد أن تحول في غمضة عين إلى (أوتوستراد) للمتهورين من السائقين وهم الأكثرية.. و(شارع الرعب) لكل (السيارات)، التي تتلمس بخوف وحذر.. طريقها إلى (يوتيرناته) وصولاً إلى شوارع (المعادي) أو (فلسطين) أو (الحمراء).. إن غرباً أو شرقاً.
غريب فعلاً أن لا يصبح لـ(المجلس البلدي) رغم محدودية صلاحياته -التي نعرفها ونشكو منها-، والذي مضى على قيامه وممارسته لمهامه ثماني سنوات.. تلك (العين) التي يرى بها ما يجري، وذلك (الصوت) الذي يحذر من مغبة أحادية (الرأي) وفرضه في حياة جدة وحياة مجتمعها! التي تحدث عنها تقرير (المجلس) نفسه الصادر عن فترته الأولى التي انتهت في ذي القعدة من عام 1430هـ.. بأن (رسالته) هي في أن يكون (عين وصوت جدة.. لتحقيق خدمات بلدية متميزة) [*]!! فأين هي (عين) المجلس.. وأين هو (صوته).؟ اللذان أو اللتان لم نرهما أو نسمعهما إلا مرة واحدة.. عند بحث ضرورة (تجفيف) بحيرة (المسك): إنقاذاً للحياة وللبيئة ولـ(سمعة) المدينة وتاريخها وصورتها عند الناس! ثم لاذ بـ(الصمت)..!!
لكن.. لابد -إنصافاً- أن نحمد الله على أن مجلسنا البلدي لم يُصبح بعد كـ(المجلس البلدي) لمدينة (الإسكندرية)، الذي برع في قطع أرزاق الناس.. في زمانات الشاعر المصري الزجال (بيرم التونسي)، والذي اشتكى منه لطوب الأرض كما يقولون عبر قصيدته المعبرة.. عن حال أبناء الإسكندرية آنذاك، وحال الغلابة فيها.. مع ذلك (المجلس) وهو يقول:
(يا بائع الفجل بالمليم واحدة
كم للعيال وكم للمجلس البلدي
إذا الرغيف أتى، فالنصف آكله
والنصف أجعله للمجلس البلدي
كأن أمي أبل الله تربتها
أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي)
* * *
على أي حال.. ما أبعدني عن ذلك الزمن الجميل، الذي كان يسألني فيه أمين جدة الأول -ولست الأعلم أو الأدرى منه، ولكنه تبادل الرأي.. لا أكثر- كيف يمكن أن تكون الإقامة سعيدة لزوار (جدة) وقصادها..؟
- بتوفير أكبر قدر من الخدمات لهم.. فلا يسأل أحد منهم عن شيء.. إلا ويجده أمامه، ولا يبحث عن شيء فيها.. إلا ويجده في متناول يده.
فيا (أمين) جدة .. ارحمنا، ويا مجلسها البلدي: ازهد.. في صمتك.
***
*“تقرير المجلس البلدي -بجدة- للفترة: ذو القعدة 1428هـ - ذو القعدة 1430هـ: الصادر عن وزارة البلديات والشئون القروية”.
dar.almarsaa@hotmail.comجدة