* كان أستاذنا في منهج البحث الدكتور عبدالستار الحلوجي الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية عن كتابه (المخطوط العربي) يؤكدُ على أهمية وضع فهرس الكتاب في مقدمته لا نهايته ويضرب لنا مثلًا بمن يشرع في رحلةٍ سياحيةٍ تمرُّ بعدد من المحطات وحين يعود إلى حيث انطلق يستلم بيانًا يوضح له أسماء المدن والقرى التي عبر بها، وهو ما يقلل الفائدة فيما لو أُوضحت له مع بدء الرحلة، ووقتَ الطلب في الولايات المتحدة لفت صديقٌ نظرنا إلى سلوكٍ عام يسود ممارستنا التسوقية؛ حيث لا نقرأ اللافتات المعلقة الدالةَ على أنواع المنتجات في الأسواق المركزية ونضطرُّ لذرع ممراتها بحثًا عمّا ننشده منها، ولو قرأنا لوفرنا وقتًا وجهدًا، وكان تبريرُ الصديق عدمَ تطلعنا للأعلى.
* الأمور”المعاشية” محكومةٌ بمقدماتها، وإذا كانت القراءةُ المتأخرة لفهرسٍ قد تفوّت معلومة، والنظر للأسفل تزيد عبئًا فإن قراءة الآتي “الخاص والعام” والتطلعَ لما وراء السُّدُم خطوة وعيٍ مرتهنةٌ بالمقدرة على الاستشراف والمهارة في مواءمةِ مدخلات التوقع لمخرجات الواقع.
* من يجيدُ قراءةَ نفسه يستطيعُ فهرسة إمكاناته سابقةً لخطوه ومحوه فلا يرتقى الثريا ولا يلتحف الثرى، ومن تعنيه حال أمته مسؤولًا كان أم مُساءَلًا ففي منهجية الدراسات المستقبلية ما يجعله قادرًا على استنطاق المعطيات ورسم مدارات الغد، ولو قرأ قياديو دول ما سمي”الربيع العربي” الراحلون والمُرحَّلون أرضَهم وأهلهم لما نُفُوا منهما مُشيعين بحكمٍ يستحقه جهلهم أوتجاهلهم، وكذا من خَلَفهم أو جاورهم فلم يقرأ”فهرس” الإصلاح مبادرًا بتأمل مكوناته وتحقيق متطلباته.
* الغد هو الكتاب، وفهرسُه هو احتمالاته”اليقينيةُ” و”الظنية”، وقراءتها المسبقةُ تحمي من ارتكابها المتأخر التي تجبر الفرد والمنظمة والدولة على العمل وفق أساليب إدارة الأزمات، وهي أساليب مؤقتةٌ غير مضمونة العواقب، وربما تناسلت في سلاسل أزماتٍ تلدُ آلامًا وقد تئدُ آمالاً.
* اللجوء لإدارة الأزمات ناتجٌ عن تأخرنا الاستقرائي الاستباقي لما نحن فيه وما نحن مقبلون عليه أو متجهون إليه، وهي إدارةٌ تتسمُ بالارتجالية والقلق وضغط الوقت وترتبطُ بسرعة تداعيات الموقف وتبدلاته، وهو ما يخلقُ فوضى التحولات وربما كارثيتها، ويستعيد معها السؤالَ الأهمَّ عن غياب “الآتي” والـ”فوق” في أنماط تفكيرنا وتقديرنا.
* ربما جازت بعد هذا محاكمةُ السائد الثقافي الملتفتِ إلى دراسة الظاهرةِ بعد حدوثها، واهتمام الكُتّاب بحكايات اليوم، وتركيز مقرراتنا التعليمية وبرامجنا الإعلامية على قراءة الواقع والتذكير بالماضي فكأن غيابَ الأفق مرتبطٌ بدخول النفق، أو كأن الشمسَ تختفي إذ لا نراها.
* لم يعد المستقبل خاضعًا للتخمينات وإن طال الجدلُ دائرةَ تحويله إلى علم ذي نظرياتٍ ومعادلات، وتبقى دراسات “ألفن توفلر”متكّأَ الباحثين، وما يزال كتابه “صدمة المستقبل” مرجعًا والكتابات العربيةُ - في معظمها- ناقلةٌ أو مترجمة.
* تبدو المسافةُ طويلةً بيننا وبين الاعتراف بالدراسات المستقبلية في شؤوننا العامة التي لا نملكها ما دامت شؤونُنا الخاصة التي نملكها خاضعةً للارتجال والمزاجية وقرارات اللحظة الأخيرة.
* ليس عسيرًا أن تتبنى إحدى جامعاتنا كرسيًا لدراسة المستقبل، ولن نعجب لو فاجأتنا الأعوام القادمة بما لا نتخيله ولا نتحمّله.
* الغدُ وعدٌ لا عدّ.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon