الدوائر القضائية، أيّا كانت مهامها واختصاصاتها، وما يرتبط بها من مكاتب خدمية، تعد آخر الحصون التي لا يمكن أن يخطر في ذهن أحد أن تقع، أو يمارس فيها أي لون من ألوان التجاوزات، أو المخالفات، أو استغلال صفة الحصانة، أو الاستقلالية التي يتمتعون فيها، والتي أقرت في الأساس من أجل تحقيق العدالة، لا غير. هذه الحصانة أو الاستقلالية أسيء فهمها،وأسيء كذلك استغلالها من بعض من ينتسب لهذه الدوائر،
حتى بات يتغنى بها، أو يتزيا بها كل من حمل هوية أو بطاقة هذه المؤسسات، بصرف النظر عن موقعه الوظيفي فيها.
* كنا وما زلنا نؤمل أن تظل المؤسسات القضائية السد المنيع، والحصن المستعصي على الاختراق أمام كل من تسول له نفسه الاعتداء على الممتلكات العامة للدولة، والخاصة كذلك، وأن تستثمر تلك الميزات المعنوية والمادية التي منحتها الدولة لهم ثقة فيهم؛ لكي لا يضعف من ينتسب إليها أمام المغريات، أو يقع تحت وطأة الحاجة. وكم كان المجتمع يقف احتراماً وتقديراً، وإكباراً وإجلالاً لفئة من المنتسبين لمؤسسات القضاء، وهم يترجلون عن الوظيفة، أو يغادرون الحياة، وقد شهد لهم القاصي والداني بالعفاف والكفاف، والترفع عن الدنايا، والبعد عن الشبهات. كان المجتمع ولا يزال يرى فيهم المثل الأعلى في التفاني بالعمل، واستثمار أيامه، وساعاته، ودقائقه، دون انتظار ميزة، أو مكافأة.
* رغم تذمرنا من طول الإجراءات، والامتعاض من التعقيد في المعاملات أحياناً، إلا أن المجتمع، وبعد أن وقع ضحية لممارسات قليلة وشاذة إن شاء الله من بعض المنتسبين لهذا الجهاز الكبير أدرك أهمية بل ضرورة التشدد في تطبيق الأنظمة واللوائح، أدرك قيمة أولئك النفر من الرعيل الأول، وفيهم بقية من بيننا حينما لاحظنا شبابنا تحاصرهم، أو يعجزون عن تحقيق بعض متطلبات الحياة الأساسية في مستقبلهم، وفي مستقبل أسرتهم، في حين نجد بعض الفئات المنتسبة لتلك المؤسسات التي أشرت إليها وقد أصابوا ذلك الثراء الفاحش ما بين عشية وضحاها، حتى انطبق على تلك الفئتين:
وباتت بطون ساغبات على الطوى
وأتخمت الأخرى بطيب المطاعم
* مشروع (إقرار الذمة المالية) المشروع المرتقب الذي ينتظر إقراره على بعض موظفي الدولة، وبخاصة ممن لهم علاقة بالمال العام، أو الحفاظ على ممتلكات الدولة، لا ندري بالفعل هل سيشمل من ينتسبون لسلك القضاء، وبالتحديد من يعملون في دوائر (كتابات العدل)، أو (موظفي الأمانات)؟ وهل سيكون الاستقصاء والبحث عما قبل وبعد صدور القرار، أم أننا سنأخذ بمبدأ (عفا الله عما سلف)؟
* لا أحد يختلف على أن المواطنين بجميع فئاتهم، وعلى جميع مستوياتهم، فوجئوا، أو صدموا ببعض التجاوزات، أو المخالفات، أو التهاون، سواء كان مقصوداً، أو غير مقصود، وهم يرون وسائل الإعلام تتناقل ما بين فترة وأخرى اتهامات، أو إدانات، أو حتى مظاهر الثراء الفاحش السريع، لأشخاص كنا وما زلنا نعدهم إن شاء الله من الأخيار. وصدق الله القائل {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}. ويقيني التام أن بعض ما يطرح عن منسوبي بعض هذه المؤسسات يشوبه بعض المبالغات، أو التجني أحياناً، لتحقيق أهداف خاصة ممن يتناول القضية إعلامياً.
* رغم تلك المفاجآت إلا أننا يجب أن نذكر في هذه الوقفة الجهود الكبيرة التي بذلتها وتبذلها (وزارة العدل)، وبخاصة بعد أن أسند لوزيرها الإشراف على القضاء، فبذل جهوداً كبيرة في الأعوام الثلاثة الماضية في سد الكثير من الثغرات التي ولجت من خلالها تلك التجاوزات، ويأتي في مقدمة برامج الوزارة الإصلاحية والتطويرية محاولة تطبيق (الحوكمة الإلكترونية) رغم المقاومة الكبيرة والعقبات التي واجهتها، إلى جانب شفافيته، وفهمه العميق لمعنى الاستقلالية التي لا تتعارض مع مبدأ المحاسبة والمساءلة والمراقبة والمتابعة.
dr_alawees@hotmail.com