ثم يقول المؤلف: وكان يتردد على والدي حبران من أحبار السامرية في نابلس، وهما الكاهن عمران وأخوه الكاهن صدقة، ولا يزال الكثيرون من أهل نابلس يذكرونهما، فكنت أطلع على كثير من كتبهم باللغة العربية، وأسمع منهما من أحبارهم الشيء الكثير، وعما يروون به على افتراءات اليهود، التي جاء بعضها في القرآن،
وعلى لسان الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يؤكدون اعتقادهم بأن أغلب التوراة من وضع اليهود، وليست كتاباً مقدساً.
ونشأت وأنا مشغول الذهن بهذه الأقاويل، وفي نفسي شيء يجول عن حقيقة علاقة اليهود بالقدس وفلسطين، وعما كنت أسمع في القرآن العظيم عن أنبيائهم حتى أنني ذهبت مرة مع والدي إلى مدينة الخليل للوفاء بنذر من ذبح خروف عند سيدنا إبراهيم الخليل لفقراء المدينة، فلما زرنا قبر إبراهيم المزعوم رأيت قبره وقبر ابنيه إسحاق ويعقوب، وبجانب كل منهما قبر زوجته، وقال لنا مضيفنا صديق والدي من عائلة أبي عصب من الخليل إن سيدنا إبراهيم ومن معه مدفونون في مغارة على عمق سبعين متراً، تحت المسجد، فقلت في نفسي: ألم يقرئنا أن يعقوب عليه السلام استقدمه ابنه يوسف عليه السلام إلى مصر ومات فيها، وأن موسى وبني إسرائيل سكنوا مصر، ولم يعرف في التاريخ أنهم سكنوا فلسطين؟ ولما رجعت إلى البيت فتحت المصحف على سورة يوسف، وقرأت فيها: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْه أَبَوَيْهِ} (99 - 100) سورة يوسف.
ثم لما التحقت بالأزهر وجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة لاحقاً)، وتعلمت العبرية القديمة، قرأت التوراة بالعربية والعبرية، بعد قراءتي للقرآن الكريم، والتفسير في معظم كتب التفسير، وتتبعت في معظم كتب التفسير، خاصة تفسير آيات القصص المتعلقة بالأنبياء والأمم السابقة، ولاسيما ما يتعلق بلوط وسيدنا إبراهيم وذريته، وبخاصة يعقوب ويوسف، والأسباط وموسى، ومن جاء بعدهم من الأنبياء: داود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، كل هذا وأنا طالب، وأن موسى وهارون ماتا في التيه بصحراء سيناء.
وقرأت عن الإسرائيليات، ولكن لم يتح لي التمييز بين صحيحها وزائفها، حتى كنت في زيارة للعلامة الشيخ عيسى منون، وكان شيخاً لرواق الشوام، وشيخاً (أي عميداً) لكلية أصول الدين، وعضو جماعة كبار العلماء، وكان مجلسه مهيباً، وجرى على لساني في الحديث ذكر الإسرائيليات فسألني - رحمه الله - ما هي الإسرائيليات؟ فتلعثمت ولم أجب إلا بجواب غير شاف، فقال لي: (يا بني اقرأ عن الإسرائيليات بتمعن).
وكان ذلك على ما أذكره سنة 1943م، ومنذ ذلك الوقت بدأت أهتم بأخبار ما يسمى بالإسرائيليات، وقد ابتلينا باليهود منذ نشأتنا، وتقاطروا على فلسطين، بعد وعد بلفوز المشؤوم؛ فكنا نختلط بهم، ونسمع منهم الكثير، وابتلينا بدولتهم التي قامت بمساعدة الدول الغربية، ولاسيما بريطانيا التي منحتهم وعد بلفور، وخدعوا بها الناس، وتبعتهم أمريكا باحتضانهم، فظهرت وعمت خرافاتهم، وخدعوا بها الناس، حتى جعلوا طوائف المسيحيين يؤمنون بالتوراة المحرفة كتاباً مقدساً كما فعل (مارتن لوثر) وأتباعه اللوثريون من قبل، واستطاعوا أن يجعلوا النصرانية في أمريكا نصرانية توراتية، وروجوا بين الناس خرافاتهم حول الهيكل والمقدس والمسجد الأقصى وحائط البراق، وعمموا افتراءاتهم عن الأنبياء، ولاسيما أنبياء بني إسرائيل.
ومن سماحة الإسلام مع أصحاب الديانات السماوية (اليهود والنصارى) أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الجابية كتب لأهل إيليا (القدس) كتاباً طويلاً، سُمي العهد العمري، وهذا نص أبرز ما جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا (القدس) من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبرئيها وسائر ملتهم، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا يُنتقص منها، ولا من حيزها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يُسكن بإيليا معهم أحد من اليهود... إلى آخره. إلى آخر هذا ص 50 - 51 من هذا.
وعند الطبري في تاريخه ج2 ص 205 “وإدخال اليهود مخالف لهذا الاستثناء من عمر بن الخطاب رضي الله عنه”، حيث عاش النصارى بجنب اليهود والمسلمين في وفاق وأمان حتى قامت لليهود دولة في الأربعينيات من القرن الماضي.
ثم بدأ يحدد الأماكن فقال عن موضع الهيكل المزعوم: لم يبنِ سليمان هيكلاً في ساحات الأقصى، ولا في مكان قبة الصخرة، ولا تحت الصخرة؛ لأنه لم يكن لليهود دولة في فلسطين، وما ذكرته التوراة في سفر صفوئيل، من أن داوود شاخ فلم يستطع أن يبني الهيكل، وأن ابنه سليمان بنى الهيكل في عام 1012 قبل الميلاد، كل هذا غير صحيح؛ لأن سليمان لم يكن في أرض الشام كلها، وإنما كان في اليمن، وذلك من تخريف اليهود في الشتات في بابل، وهم الذين زيفوا التاريخ.
1- ما ذكره اليهودي أحمد سوسة الذي ادعى الإسلام، كما زعم، من أن الهيكل تحت قبة الصخرة، مدعماً رأيه بالرسوم، ادعاء باطل، لا يستند إلى دليل، والحفريات التي قام بها اليهود تحت الصخرة لم تُثبت إلا أن ما تحتها صخر أصم، وقد جعلوا في التجويفات التي أحدثوها مكاناً مستحدثاً يصلون فيه؛ ليوهموا الناس، ولم يثبتوا أنه كان قديماً، وليجعلوه برهاناً مزيفاً على ما يزعمون.
2- ثم زعم بعض اليهود أنه المكان الذي يتعبد فيه داوود عليه السلام، علماً بأن داوود لم يسكن القدس (ص 57).
3- ووصف التوراة للهيكل وصف خيالي كما قال رئيس جامعة أدنبرة أكثر من كونه واقعياً.
4- وجاء في كتاب مدينة القدس فيما قال: ونؤكد مرة أخرى على ضرورة الحذر الشديد في كتابة هذا المرحلة من تاريخها، أي مرحلة داوود وسليمان التي تسميها المصادر الإسرائيلية (مرحلة الإمبراطورية)، وواقع الحال الثابت بالآثار والمدونات التاريخية يؤكد أنه لم يكن هناك في أرض فلسطين القديمة لا إمبراطورية ولا دولة إسرائيلية، تتوافر فيها أبسط معايير ومواصفات الإمبراطوريات بما لها من هيمنة واسم، والدول في تلك الحقبة القديمة يسجّل المهتمون تاريخها، ولم نجد شيئاً مسجلاً.
5- ورداً على كتاب لحبون رومر، الذي سماه العهد القديم، ففي الحقيقة لا توجد قرائن ولا قرينة علمية أثرية تشير إلى أن داوود وسليمان كان لهما وجود خارج صفحات التوراة، ولا أي وجود في فلسطين، بل هما في اليمن.
6- وذكر عن عالمة الآثار البريطانية كاثرين في كتابها أن موقع الهيكل لا توجد فيه أية أدلة أو براهين (ص 24 من كتابها).
7- ويذكر عالم الآثار فوكسويل أوبرايت من مدرسة الانتقاد لتاريخ التوراة أن التاريخ التوراتي اختُلق في عهد الشتات في بابل، وأن تسلسل الأحداث في تاريخ شعب إسرائيل ليس إلا استرجاعاً لاحقاً للماضي لأغراض لاهوتية دينية، بدءاً من عهد إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومروراً بالهجرة إلى مصر والاستعباد هناك، ومن ثم الخروج من مصر، وانتهاء باحتلال أرض إسرائيل وتوطن أسباط إسرائيل فيها.
8- ويقول: إن الحفريات التي أُجريت في المواقع التوراتية المهمة، ومنها مواقع نابلس وأريما والقدس وغيرها، لم تثبت أي أثر لليهود. وأيده إيفان بادينو يومان أهاروني، وزئيف أهاروني هرتسوغ، وهما من علماء الآثار اليهود، الذين تبنوا الحقائق التاريخية، التي تدحض الأسطورة التاريخية.
9- ويقول سيردوف الذي يُعتبر من أشهر علماء الآثار في إسرائيل نقلاً عن جريدة القدس المقدسية، ونشرته جريدة الرأي الأردنية في 23-1-2001، إنه لا صحة لما يقال إن بقايا الهيكل موجود في أسفل الحرم القدسي (ص 57).
10- ثم انتقل إلى سور سليمان، وقال: من خرافات اليهود التي جازت على كثير من الناس، بالزعم أن الحائط الغربي للحرم - وهو الحائط الشرقي للقدس - من بناء نبيَّيْ الله سليمان وداوود، فكيف يبنيانه وهما في اليمن؟! ثم تحدث عن هذا السور وتجديده مع المعارك (ص58 - 59).
11- وعن إسطبلات سليمان - وهو مبنى واسع مسقوف، يقع في الزاوية الشرقية الجنوبية من بناء المسجد - تحدث عنها ثم قال: ليست باسم نبي الله سليمان، وإنما نسبتها إلى سليمان بن عبد الملك الأموي، الذي أصرَّ على أن يبايَع بالخلافة في القدس، فعملت هذه الإسطبلات للوافدين وخيولهم (ص 60 - 61).
نكتفي بهذا، وإلا فإن الكتاب مليء بتفنيد كذب اليهود وقلبهم التاريخ ومجرياته لتغطية أكاذيبهم؛ كي يوهموا الآخرين بزيف تاريخهم. والكتاب قد تعب فيه مؤلفه، ووثق ما فيه لمن يطلب الحقيقة.
mshuwaier@hotmail.com