كتاب جنّة الرضا في التسليم لما قدّر الله وقضى، لأبي يحيا محمد ابن عاصم الغرناطي المتوفى سنة 857، يعتبر آخر كتاب وصل إلينا من مؤلّفات الأندلسيين فترة بقائهم في الأندلس تحت حكم المسلمين، وهو كتاب ربما انبثقت فكرته من الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردِّية التي كان يعيشها الناس ومن ضمنهم المؤلِّف. فهو زمن ليس بينه وبين السقوط النهائي للأندلس إلاّ نحو ثلاثة عقود، حيث سقطت الأندلس عام 897 هـ، وعاش المؤلِّف في فترة سياسية مضطربة بعد وفاة الغني بالله محمد الخامس ابن الأحمر عام 793 هـ، وهو صاحب ابن الخطيب وابن زمرك وما وقع بينهما، وما آلت إليه مصائرهم جميعاً، وابن عاصم صاحب الكتاب لـه مؤلّفات منها (أرجوزة تحفة المقام في نكث العقود والأحكام)، وأرجوزة (مهيع الوصول في علم الأصول)، و(رجز نيل المنى)، و(قصيدة إيضاح المعاني) وغيرها كثير. ولقد وُلي مؤلِّف الكتاب اثني عشر منصباً في وقت واحد، من القضاء والوزارة، والكتابة، والخطابة، والإمامة، وغيرها، ويتبيّن من الألقاب التي يتحلّى بها اسمه أنه كان وزيراً، وكاتباً، وشاعراً، وناثراً، وقاضياً للجماعة، وعالماً، وفقيهاً، وقد شهد تقلّبات سياسية فنجا من بطش الأضداد أثنائها، وهو أمر قليل الحدوث في ذلك الزمن، إلاّ أنه في نهاية الأمر ذُبح بسيف السلطان، ولن نطيل في ترجمته، لنعرج على ندر من كتابه.
كتابه جنّة الرضا ألّفه طبقاً لطريقة ابن حزم في تأليفه كتاب طوق الحمامة المشهور، فقد جعله على شكل صور يحاكي بها النفوس ويدعوها إلى الرضا والتسليم بما قدّر الله وقضى، وليس كما فعل ابن حزم في كتابه الطوق، الذي كان يتحدث عن العشق والعشاق، ولعل الواقع السياسي في عصر الرجلين كان متبايناً، وقد يتسنّى في بعض هذه الصور من التدبير الإلهي ما تعجز عنه الأسباب، وتعتبر في تباين ما بين مبدئه ومنتهاه الألباب، كما حدث علي ابن يحيى ابن منصور فقال: حدثني بعض التجار، قال: حملنا متاعاً من الصين على الأُبلة، وكان قد اجتمع ركب فيه مقدار عشر سفن، قال: فبينا أنا قد أصلحت ما أردت من السفر إذا شيخ قد وقف عليّ وسلّم، فرددت عليه السلام، فقال: يا هذا، إني قد صرت إلى التجار في هذه السفن فسألتهم قضاء حاجتي فلم يقضوها وأنا أسألك أن تقضيها لي، فقلت: وما حاجتك عفاك الله ؟ قال: أقول لك بعد أن تضمن لي قضاءها. قلت أفعل، فأحضر رصاصة مثل الكرة فيها نحو من مائة منٍّ، وقال لي: تأمر بحمل هذه الرصاصة معك، فإذا صرت في لجة بحر كذا وكذا، وذكر لجة هائلة، تطرحها في البحر، قلت: يا هذا، ليس هذا مما أفعله. قال: قد ضمنت لي وسبق فيه وعدك، ولابد لك من الوفاء به. قال: فلم يزل حتى قبلتها، ثم قال لي: أحضر برنامجاً واكتب ذكرها فيه لئلا تنساها، وتذكّرني إذا رجعت فتخبرني بما صنعت، ومنزلي في موضع كذا وكذا. فكتبت ما قال من صفته، وخرجنا، حتى إذا مررنا بتلك اللجة وصرنا نسيت، حتى إذا وفينا موضعنا بعت فيه ما كان معي، وحضرني رجل فقال: ما هذا الذي معك؟ رصاص؟ رصاص؟ والرصاص يدخل في عمل.. (غير جيد)، فقلت: ليس معي رصاص. وكنت نسيت الرصاصة، فقال لي غلامي: معنا رصاص. قلت: لم أحمل معي رصاصاً. فقال: بلى رصاص الشيخ، فذكرته، فقلت: خلفناه وبلغت إلى هذا الموضع وينبغي أن أبيعه لـه، فإنّ ذلك خير مما أراد به. فقلت للغلام أحضرها، فأحضرها، وساومني الرجل بها، فبعتها منه بمائة وثلاثين ديناراً، وابتعت للشيخ بها من طرائف الصين، وخرجنا حتى وافينا الأبلة، فبعت ما كان معي، وبعت تلك الطرائف، وبلغ ثمنها سبعمائة دينار، وصرت إلى البصرة إلى الموضع الذي كان الشيخ وصفه لي ووقفت بباب داره، وسألت عنه، فقيل لي إنه قد مات. فقلت: هل خلف أحداً يرثه؟ قالوا: لا نعلم لـه إلاّ ابن أخ في بعض نواحي البحر. فسقط في يدي، وبقيت لا أدري ما أعمل بما كان له عندي. وقيل لي: إنّ داره مقوفة بيد أمين القاضي، فرجعت إلى الأبلة والمال معي لا أدري ما أعمل به. فبينا أنا ذات يوم جالس إذ وقف على رأسي رجل فقال: أنت فلان ابن فلان؟ قلت: نعم. قال: كنت خرجت إلى الصين؟ قلت نعم. قال: وبعت رجلاً هناك رصاصة؟ قلت نعم. قال: أفتعرف الرجل؟ فتأمّلته وقلت أنت. قال: نعم يا هذا، إني قطعت من تلك الرصاصة شيئاً لأستعمله فوجدتها مجوفة ووجدت فيها اثني عشر ألف دينار، وقد جئت بالمال، فخذ ما كان لك عافاك الله، قلت: ويحك ! والله ما المال لي، ولكنه كان من خبره كذا وكذا، وحدثته بحديث الشيخ كله، وأنه قد اجتمع من ثمن الطرائف سبعمائة دينار أيضاً، لا أدري ما أصنع بها؟ فتبسّم الرجل تم قال: أنت تعرف نسبي من الشيخ قلت لا: قال فأنا والله ابن أخيه وليس لـه وارث غيري، وأراد أن يزول هذا المال عني، وهو غرّب بي من البصرة منذ تسعة عشر عاماً، فأبى الله إلاّ وصول مالي إليّ على رغمه. قال: فأعطيته السبع مائة دينار التي كانت معي، ومضى إلى البصرة، وأخذ متاعه وأقام بها. (انتهت).
إنها عبرة من العبر، والكتاب مليء بمثل تلك الأمثال الجليلة، فالله غالب على أمره.