داحس والغبراء، كليب وجساس، بني وليد ومصراته صور طبق الأصل مع اختلاف التسميات، كلهم في المثل سواء وكلهم يمثلون شكلاً من صراع ملبّد بالكراهية والأحقاد، وكلهم كان سبب صراعهم إما ناقة واحدة أو حصان أو شخص اسمه كليب أو القذافي، أسمع ما يجري في نفوس الفرقاء في أرض ليبيا وأسمع ما يقوله أحدهم :
لا تعسفن على غدر الزمان لطالما
رقصت على جثث الأسود كلاب
ما قصدها تعلو على أسيادها
تبقى الأسود أسوداً والكلاب كلاب
فنحن وإن جار الزمان لبرهة
نبقى الكبار وغيرنا أقزام
ما ذنبنا إن كان يشعر أننا
أرقى وأن مكانه الأقدام
هذه الأبيات تردّد الآن في قنوات فضائية ليبية وتذكّرنا بالعصر الجاهلي والتعصب المقيت الذي لا يكتمل فخر المرء بقبيلته إلا باستنقاص الآخرين، كما قال الأول:
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً
وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ
تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا
نعم هذا هو عصر الجاهلية الأولى التي تحرّرت بفضل الإسلام من عباد القبيلة إلى عبادة الله وحدة، وتحرّرت من أن يصبح المرء دمية في يد أحمق ليصبح حراً بنفسه، هذه الأخلاقيات وهذا التعصُّب الكريه هو وللأسف الشديد الآن يدرس في أرض ليبيا ويردّد ألحانه أبناء ليبيا بعدما ظننا أن أهلها تحرّروا من قيد القيد وقيد الطغيان. إنها نكوص الحرية الذي يسيره ويشجع عليه أرباب القبائل هنالك، عرفهم المبطن هو: ولائي للقبيلة أولاً وأخيراً، نحن النور وما سوانا ظلام، لن أشعر بذاتي إلا بعد أن أذل الآخر وأضعه في أسفل سافل من الأرض.
إنّ إلهاب أجناد القبائل وأبنائها لكراهية الآخر ورفض التعايش معه أمر يقود لحروب انتقامية مزمنة لا يمكن إطفاء لهب نارها. الآن يردد بعض الليبيين: أنا أكره أهل مصراته لأني من بي وليد، أو أنا أكره أهل بني وليد لأني من أهل مصراته.
هذا الكلام ليس فيه تهويل ولا تضخيم، بإمكانك أن تجول في القنوات الليبية وترى وتسمع أكثر من ذلك، وللأمانة، أنا لست على بيّنة بتفاصيل ما يجري هنالك لكنني على علم بأن قانون التعصب القبلي هو قانون واحد وأن له نتيجة واحدة. إنه يبرمج أهله بشكل تلقائي لأخلاقيات استحقار الآخرين وعدائهم وكراهيتهم لسبب واحد هو الامتثال الأعمى لقوانين القبيلة، كما قال الأول: وهل أنا إلا من غزية إن غـوت, غويت، وإن ترشد غزيـة أرشد، وكأن يقول: ما أنا إلا دمية خرقاء في يد سيد أحمق.
ولقد كان حكماء العرب أثناء استفحال العداء القبلي لديهم أدبيات جديدة بالتأمُّل في حال رغبتهم في ردم الخلاف بينهم، إذ كان من عاداتهم إدخال وسطاء خارج القبائل المتنازعة وتوسيط أحد يكون من خارج الصندوق، ونعلم كيف أصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف الأوس والخزرج رغم ما أريق بينهم من دماء.
وفي أحيان كثيرة تعمد بعض القبائل التي يتنازع أهلها لتنصيب واحد من خارجهم، عائلة آل الصباح نصبهم أهالي الكويت حكاماً لهم كونهم عائلة توسّطت في فرقة بيت قبيلتين كبيرتين، كذلك الملك عبد العزيز وحّد جزيرة العرب التي استعصت وحدتها على جميع من سبقه لأنه لم يكن همه نفوذ قبيلته، بمعنى أنّ الملك عبد العزيز لم يحارب لأجل نفوذ قبيلته، وكان في نفس الوقت يخمد الأصوات الشاذة حتى ولو فيهم أمير في قبيلة.
ما أريد أن أخلص إليه هو أنّ تهدئة الاحتقان واجتثاث الكراهية بين المجتمع القبلي لا يمكن أن يكون إلاّ من خلال الاستعانة بأشخاص يقعون خارج النزاع أو خارج الصندوق Out of the box .
محمد علي باشا في رأي المصريين أفضل حاكم مر على مصر ويسمّونه برائد النهضة الحديثة، وكونه حاكماً غير مصري هو أمر يميزه ولا يعيبه، فلا يخلو حاكم من داخل القطر إلا وله أطراف تعاديه بعكس من كان بخارج الصندوق. والتاريخ الإسلامي لن ينسى فضل صلاح الدين الأيوبي الكردي وكونه كردياً وليس بعربي جانب يميّزه ولا يعيبه، فقاد العرب في أشهر موقعة مصيرية طرد فيها الصليبيين من بلاد الشام بعدما حكموها قرناً من الزمان.
إنّ سياسية الحاكمية من خارج الصندوق قد أثبتت جدواها خلال حقب التاريخ شريطة أن لا يكون لذلك الحاكم أي ولاءات داخلية أو خارجية هنا أو هنالك.
ومنذ أكثر من قرن من الزمان اختفت سياسة الحاكمية من خارج الصندوق في عالمنا العربي، حينما اختفت الدولة العثمانية، وتطلّع العرب لتنصيب من هم بداخله وكان ما كان من عمليات الاستبداد بالسلطة، وما تمخّض عنها من فساد مقيت في إدارة الحكم جرّ الشعوب لتثور مرة أخرى على الحكام عبر ما يسمّى الآن الربيع العربي. وفي البلاد التي نجحت فيها الثورات لا زالوا مختلفين في تحديد الأسلوب الأنسب في الحكم هل هو النظام الديموقراطي بحذافيره أم سياسة التمثيل الديموقراطي.
لقد خفي على الكثير أنه لكي ينجح الحكم الديموقراطي كما نجح في دول الغرب، فلا بد في البدء من وصول فرد المجتمع لثقافة التعايش مع الغير وإذابة الفوارق الطبقية بين مكوّنات المجتمع والعمل على الاندماج الفعلي بين مختلف أطياف المجتمع واختفاء صوت الإثنية والعنصرية والطائفية وتحقيق مبدأ احترام الآخر مهما كان الدين والعرق والطائفة، وهذا أمر في واقع الحال لم تصل إليه بعد ثقافة المجتمعات العربية.
كذلك سياسة التمثيل الديموقراطي لم تنجح إذ تجدها منذ القدم مطبقة في أرض لبنان لكنها بدأت تثبت فشلها، فالرئيس من المسيحيين ورئيس الوزراء من السنّة ورئيس النواب من الشيعة والمتتبّع لمجريات الأحداث يرى أنّ الأمور لا تسير بما هو مخطط لها، فالفكر الانتهازي مغروس في نفوس البعض فما من سلطة تجد لها وسيلة لمضاعفة نفوذها إلاّ وتتبعها، وتجد هذا واضحاً في استعانة حزب الله بأسلحة إيران لأجل مضاعفة نفوذه على سلطة لبنان، وهذا ما قاد اليوم لبنان لمرحلة من التأزم وسلسلة من الاغتيالات التي لم تكن موجودة من قبل.
والنظام العراقي يسير على درب سياسة لبنان حيث التمثيل الديموقراطي، فقسّمت السلطات في العراق إلى حقائب تراعي فيها نسبة السنّة والشيعية والأكراد، ولكن ما إن مرت سنتين إلاّ وبدأت معركة التصفيات والمتابعات القضائية رغبة في الاستئثار بالسلطة ولا أحد يعلم اليوم ما ستؤول إليه حال العراق بعد هذا الاحتقان.
وعلى أية حال لم ينجح النظاميون، لا النظام الديمقراطي ضمن للأقليات حقوقها، ولا النظام الديموقراطي التمثيلي تجنّب السعي للاستئثار بالسلطة، فكلا النظامين في واقع الحال باتا قيد الاحتضار.
عود على بدء، والحديث كان في مزايا الحاكمية من خارج الصندوق وكيف أنه يحد من أسلوب الاستئثار بالسلطة، ويعزز فكرة أنّ الحاكم وضعه الشعب لأجل تنظيم حياتهم وفق دستور يتفقون عليه، وليس لأجل أن يصول ويجول حسب نزاعاته الخاصة. من المؤكد، أنّ من هم بداخل الصندوق مشحونون انفعالياً بأحداث الماضي والحاضر، وأن من هم بخارجه هم بعيدون عن ذلك، هل يا ترى يناسب الليبيين على وجه الخصوص قيادة من خارج الصندوق.
Samary5050@hotmail.comجامعة الملك سعود