|
إدلب - سليمان الأسعد:
قصص حزينة تلك التي يعيشها السوريون كل يوم، يروونها كحاضر حي، ويعيشون تفاصيلها كجزء منها لا كمعاصرين لها فحسب، هي في الواقع تاريخٌ يُصنع لحظة بلحظة، شهوده أحياء مثقلون بالأسى والألم، يعانون يومياً أكثر من مرة ، ويبكون من فقدوا في هذه الرحلة الطويلة، يحاولون إكمال طريق لا يعرفون تماماً أين وكيف سينتهي، ولكن داخلهم إيمان راسخ بأن هذا الطابع الملحمي لحياتهم الحالية سيكتب لهم قصة حياة جديدة ذات يوم.
لكل سوري يسكن تلك البلاد قصة مع هذه الثورة، ولكل مدينة رحلة قطعها أبناؤها منذ صرختهم الأولى في سبيل الحرية الموعودة، إنها منظومة من المشاهد التي تغيرت بالكامل على مستوى المعيشة والمعطيات والواقع اليومي، فغيرت في ظرف أيام فقط طبيعة الحياة بفعل الظروف الصعبة، وعادت بالزمن إلى قرون ماضية حيث ليس ثمة غير خيارات بدائية تكفل الحد الأدنى الممكن للبقاء على عنق زجاجة الوجود، «الجزيرة» تنقل لكم في هذه السلسلة فصلاً من هذا التاريخ، بما يستحقه الأمر من تسليط الضوء على كواليس إنسانية وأخلاقية واجتماعية قد لا يطلع عليها المتابع للعناوين الرئيسة في الأزمة السورية، وكذلك تتبع المواقف البسيطة التي عايشها وتعايش معها الناس، والتي جعلت منهم أبطالا على طريقتهم في أسلوب تعاملهم مع مايحدث بشجاعة لا تقل عن شجاعة من تصدروا مشهد المواجهة العسكرية مع قوات النظام، في الحالتين لم يدخل المستحيل في قاموس التصرف، وفي الحالتين لا معنى لكلمة «استسلام».
بعد بضعة أيام من سقوطها بأيدي الجيش الحر، بدت مدينة حارم منهكة من القذائف والصواريخ، لكن العابرين - على قلتهم - كانوا منتشين بالحرية الطارئة على حياتهم بعد أن شهدوا حرباً داميةً دارت في أحياء المدينة، ثم انتقلتْ إلى قلعتها المنيعة التي تحصَّن بها جنود النظام لشهرين أمطروا فيهما السكان بوابل من الحمم إلى أن تمكَّن الثوار من فتحها.
وواجه الثوار عنتاً شديداً في تحرير القلعة، فالمدينة التي احتلوها كانت تبدو للواقف على سور القلعة كأنها كف منبسط، أي أن أحياءها مواقع مكشوفة عسكرياً ويسهل استهداف أي نقطة فيها، وهو ما يؤكده أحد الحراس الذين عيّنهم الجيش الحر: «عانينا طويلاً من القنّاصة المتمركزين في أبراج المراقبة المحيطة بالقلعة، إذ كانوا يصطادون المشاة داخل أي شارع، والمدفعية لم تجد صعوبة في إصابة أهدافها القريبة والبعيدة».
وقُتل العشرات من جنود الجيش الحر خلال تسلقهم سور القلعة العريض لإحداث ثغرة فيه: «كان سقوطها معجزة حقاً، فالحصار الذي فرضناه عليها لم يكن مجدياً مع وجود نبع ماء داخلها، كما أن جنود النظام كانت لديهم مؤونة طعام تكفيهم شهوراً طويلة».
لم يُبالغ في وصف العملية بالمعجزة، فالتجول داخل هذا الحصن المنيع يُكرِّس القناعة أنها لا يُمكن أن تسقط: «الله وحده أعاننا عليهم، فقد خارت قواهم حين توهّموا أن مدافعنا ستدك أسوارهم، ويصعب علي أن أصدق أننا استطعنا دخولها».
استسلم جند النظام، واستولى الجيش الحر على عتاد وذخيرة من القلعة، وأسر أكثر من مائة جندي وشبيح، واحتجزهم في مزرعة كبيرة خارج المدينة أعدّها لواء «شهداء إدلب» لتكون مقراً إدارياً وسجناً لاحتجاز الأسرى والتحقيق معهم.
وأمام بوابة المزرعة، استوقفنا جندي درعاوي لطيف ليطلب منا الترجل والدخول مشياً على الأقدام: «لأنكم لن تستطيعوا الدوران والعودة بالسيارة، فنهاية الممر ضيقة جداً».
ودون أن نُسأل عن هويتنا، قطعنا مسافة مائتي متر تقريباً داخل المزرعة لنصل إلى مبنى فاخر يتصل بشرفة واسعة مزدحمة بالبشر، وانتهينا إلى شاب ملتحٍ يعتمر طاقية عصرية استقبلنا باحتفاءٍ، وقادنا إلى مهند عيسى، أحد قادة لواء شهداء إدلب الذي يضم أكثر 2800 مقاتل.
كان مفاجئاً أن يشير عيسى إلى أشخاص يتنزهون على الشرفة: «هؤلاء بعض الذين أسرناهم في القلعة، وهذه فترة العصر التي نسمح لهم فيها أن يمشوا في الهواء الطلق».
كان الأسرى يتأملون غروب الشمس في الأفق الذي تبدو الأراضي التركية أقرب منه إليهم: «نعاملهم كما يأمرنا الإسلام، لا كما يعامل النظام المعتقلين، لا نعذب أحداً منهم ولا نؤذيه».
وبينما كنت أقترب منهم، أضاف عيسى: «ورغم شح الطعام، فإننا نطعمهم مما نأكل»، ثم انزوى بعيداً ليتركني أنفرد بأربعة منهم كانوا وقوفاً في زاوية الشرفة.
امتدح ثلاثة من الأسرى معاملة الثوار، بينما كان الرابع يحدق بعيداً دون أن ينظر إلي، ثم اكتشفت أنه ضابط من جيش النظام، بينما كانوا هم شبيحة من مدن متفرقة: «بعض الأسرى من أبناء حارم نفسها»، كما أخبرني عيسى حين عدت إليه.
ويروي عيسى أنهم خاطبوا (مجلس القضاء السوري الحر) فور تحرير القلعة ليطلبوا قضاة تحقيق يشرفون على إجراءات المحاكمة التي ستعقد للأسرى: «استجابوا فوراً، وأرسلوا اثنين من المحققين مع كاتب ضبط، وبدؤوا عملهم هذا الصباح».
ورافقني عيسى إلى أحد المكاتب ضمن المبنى المتصل بالشرفة، وسمح لنا الحاجب الذي يقف على الباب بالدخول بعد أن أستأذن القاضي، لكن عيسى اعتذر وغادر: «لا أستطيع أن أدخل».
كان القاضي يحقق مع أسير يجلس أمامه بينما يولي ظهره للعلم السوري القديم (علم الاستقلال) الذي خطت بين نجماته الثلاث عبارة: «الله أكبر»، ويجلس إلى يمينه مساعده عبد الناصر حوشان، وإلى يساره كاتب الضبط زياد عبد الغني.
انشق القاضي خالد شهاب الدين عن مؤسسة القضاء التابعة للنظام السوري قبل سبعة أشهر، وأسس مع مجموعة من زملائه مجلس القضاء السوري الحر الذي يتولى إدارة المحاكم في المناطق المحررة من سوريا: «نحتكم إلى قانون العقوبات السوري النافذ الذي صدر في العام 1949م، وهو ليس قانون بشار (الأسد) ولا قانون أبيه!».
ولا يعترف المجلس بأي تشريعات صدرت منذ انطلاق الثورة: «فهذا النظام سقطت شرعيته في تاريخ 15 آذار - مارس من العام 2011م»، كما يقول شهاب الدين.
لم يكن هناك محامٍ عن المتهم يحضر الجلسة، لكن القاضي أشار إلى مادة في القانون تتيح له أن يجري تحقيقه الأولي دون حضور محام حفاظاً على الأدلة: «رغم أني آمل أن تتغير الكثير من المواد والإجراءات في سوريا المستقبل».
وأضاف شهاب الدين: «ستعقد للمتهم محاكمة علنية، ويحق له أن يُوكل محامياً على نفقته، فإن كان عاجزاً عن ذلك، سخّرنا له واحداً».
ويقاطع مساعده حوشان الحديث ليضيف: «نحن في انتظار أحد زملائنا من كتّاب العدل لتوثيق وكالات المدعى عليهم في حال رغبوا أن يُوكلوا محامياً».
واعتادت منظمة العفو الدولية أن ترسل مراقبين لحضور جلسات المحاكمة ومتابعة إجراءاتها، كما يقول حوشان: «وقد يصلون في أي وقت هذا الأسبوع».
ويؤكد كلاهما أن المتهمين سيكون لهم الحق في استقبال أفراد من أسرهم فور انتهاء التحقيقات الأولية.
ويرفض شهاب الدين أن يتدخل قادة الجيش الحر في سير التحقيقات: «ولو أن أحدهم دخل مكتبي أو تدخل في عملي، فسأستقيل فوراً».
وتعهد لواء شهداء إدلب باحترام السيادة القضائية، كما يؤكد القاضي: «وضعوا أنفسهم تحت تصرف القانون في حال اكتشفت أي مخالفة في التعامل مع الأسرى، والتزموا بتنفيذ الأحكام الصادرة على المتهمين».
كان الأسير الذي يُسميه القاضي (المدعى عليه)، صامتاً يقلب طرفه في أرجاء الغرفة حين سألته عن المعاملة التي يلقاها هنا: «كل شيء جيد حتى الآن، ولا يمكنني أن أشكو من البرد لأني رأيت عناصر الجيش الحر يبيتون في غرف شبيهة بالتي نقيم فيها».. ثم رد بالإيجاب عن سؤال وجّهه القاضي: «هل سترضى بحكم القضاء السوري الحر؟».
ولدى خروجي من المكتب، اختليت بأسير كان يدخّن وحده في أقصى الشرفة طاوياً يده اليسرى الملفوفة بشاش طبي: «أصبتُ في المواجهة مع الجيش الحر، وتلقيتُ إسعافاً أولياً حين أسروني، إذ عاينني طبيب ضمّد لي جرحي».
ألمحتُ إليه أن بإمكاني مساعدته لو أنه تعرض إلى إساءة أو تعذيب، وأن المنظمات الدولية ستوفر له الحماية، لكنه أصر على روايته التي تنفي أي انتهاك: «لن أفتري عليهم.. كانوا طيبين معنا بشكل لم نتوقعه مطلقاً».
وكنت التقيت أبا عيسى (أحمد الشيخ)، قائد لواء صقور الشام، في مقره بإحدى قرى جبل الزاوية، فروى لي قصة قناص من جنود النظام قتل عدداً كبيراً من المدنيين قبل أن تقبض عليه كتيبة تابعة للواء، لكن القاضي الذي أُحيلت إليه القضية أمر بإطلاق سراحه: «إذ تبين أن أحد مقاتلينا أعطاه الأمان وقت حصاره، وتذرع الأسير أنه لم يكن ليستسلم لو لم يسمع عهد الأمان من مقاتلنا!»، ثم أضاف أبو عيسى تفصيلاً في القصة بدا له مهماً: «هذا الأسير ينتمي للطائفة المسيحية، ومقاتلنا الذي تسرّع بمنحه الأمان في العشرين من عمره».
وروى لي أحد الجنود الذين قابلتهم في مدينة معرة مصرين (ريف إدلب) قصة جندي من جيش النظام فرّ خلال حصار الجيش الحر لإحدى المقرات الحكومية، فوجد امرأة مسنّة تقف على باب بيتها فتوسل إليها أن تخفيه في بيتها فاستجابت لطلبه وأجارته، ورفضت أن تسلمه للجيش الحر الذي استسلم لعنادها: «بل اتصلت بأهله الذين حضروا لاستلامه منها دون أن يمسه سوءٌ!».
وأينما توجهت في المناطق المحررة من البلاد، تسمع ما يشبه «الأساطير» عن المعاملة المثالية التي يلقاها جنود النظام حين يسقطون أسرى بيد الجيش الحر، لكن مقابلتهم والاستماع إليهم ومراقبة إجراءات التحقيق، تجعل هذه الأساطير قابلة للتصديق، أو قابلة للرواية على الأقل.