أهداني إنسان عزيز على قلبي كتاب “أشخاص حول القذافي” لمؤلفه عبدالرحمن شلقم وهو من رجال القذافي طيلة عقود، وما أن رأيت اسم عبدالرحمن شلقم حتى تذكرت الولد الشقي محمود السعدني الذي وصفه في كتابه في المنفى قائلا:” وقابلت في ليبيا واحدا بشنب، اسمه شلقم أو شلغم، وكان رئيسا لتحرير “الفجر الجديد” أو الفقر الجديد كما أطلقت عليها...
... وهو أقل كثيرا من مستوى طالب في قسم الصحافة، جلس معي عدة ساعات ليشرح لي أسرار الصحافة الجديدة حسب نصوص النظرية الثالثة. وحمدت الله لأنني لم أفهم حرفا مما قال...” وربما كانت تجربة المغامر القذافي في حكم ليبيا تتلخص في إدارته لبلاده من خلال عقدة الوجاهة التي سيطرت على حالته الذهنية وحالة شعبه كاملا كما تسيطر هذه العقدة على الباحثين عن الشهادات الوهمية والألقاب الأكاديمية، فالنظرية الثالثة كانت أضحوكة المفكرين والجماهيرية لم تحقق أبسط ما حققته جمهورية الموز ولقب ملك ملوك إفريقيا لم يخلصه من عقلية عقيد يحمل بطش العسكرتاريا ولست بصدد الحديث عن عقد القذافي التي أفرغها على الشعب الليبي، ولكن الذي استوقفني مذهولا من حديث شلقم عن الدكتور إبراهيم أبو خزام الحسناوي وزير التعليم في الجماهيرية، فقال :”لاأعرف من أين حصل على الدرجتين الأخيرتين (الماجستير والدكتوراه)، كل ما أعرفه أنه يكتب كلمة الدكتور قبل اسمه في العشرين سنة الأخيرة، صار آلاف من الليبيين يحملون لقب الدكتور، حصل بعضهم عليه من السودان، أو من المغرب، لكن أغلبهم اشتروا ذلك اللقب من دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الأنظمة الشيوعية فيها. أحد هؤلاء الحاصلين على كلمة الدكتور من أوروبا الشرقية تقدم إلى إحدى الجامعات الليبية لتدريس مادة القانون وبعد الاطلاع على دكتوراته تبين أنها في مادة الجغرافيا، طلب منه أن يحضر الرسالة أو الأطروحة التي نال بها ذلك اللقب في الجغرافيا تبين أن دكتورا قد سبقه إلى جامعة ليبية أخرى وقدم الأطروحة نفسها، وبعد التحقيق تبين أن هناك شخصا عراقيا يقيم في إحدي دول أوروبا الشرقية يبيع تلك الأطروحات المنسوخة لليبيين وغيرهم...”، والكارثة حينما يوجه القذافي لوزير التعليم الدكتور أبو خزام بأن الجامعات خرابات يجب أن تغلق لأنها خطر على الثورة.
وعطفا على حديث شلقم وتوجيه القذافي فحديث عضو مجلس الشورى الدكتور موافق تلمس من خلاله حماسته في كشف التزوير والوهم في حملة الشهادات العليا التي يتم من خلالها تقييم تجارب الأمم الفكرية، وفي هذا الباب لا يمكن لمنصف إلا أن يستحضر أيضا جهود وزارة التعليم العالي في قسم المعادلات وتصريحات معالي وزير التعليم العالي والمسؤولين فيها، كما يثمن المفكرون في هذا الوطن دراسة نظام يحمي المجتمع من شر هذا الوهم تحت قبة مجلس الشورى وهذا دليل على اهتمام الدولة بعلاج هذه الظاهرة التي تنذر المجتمع بالخطر، هذه الظاهرة العالمية التي لم يسلم منها وزراء ووجهاء من أمثال وزير الدفاع الألماني كارل غوتنبرغ الذي قدم استقالته عقب الكشف عن سرقة علمية في شهادة الدكتوراه ووزراء في إيران مثل وزير الداخلية الإيراني الذي اعترف أن شهادته الجامعية مزورة ووزير التعليم العالي الإيراني كامران دانشجو الذي فضحته بريطانيا ووزير العمل بهبهاني الذي أكدت جهة إعلامية أنه اشترى شهادة الدكتوراه بحفنة دولارات حسب تقرير نشرته القبس مما يؤكد ما ورد في الدراسة التي أصدرها مختصو التعليم في اليونسكو بعنوان “الأخلاقيات والفساد في المدارس والتعليم” عام 2001م ونصت على تفشي فساد بيع الوهم الجامعي في جميع أنحاء العالم وقدمت الدراسة حلولا للاعتماد الأكاديمي وإصدار التراخيص في التعليم العالي، ولم يقتصر ذلك الوهم على التعليم العالي بل تجاوز إلى تخصصات مهنية تتعلق بحياة الناس كعلوم الطب وفنون الهندسة وتقديم استشارات أسرية ورسم سياسة حكومات وحل مشاكل مجتمعات بالوهم والبحث عن الوجاهة والمال. يجب أن يتجاوز الاهتمام أيضا إلى كشف هذه الظاهرة في مجتمع الأكاديميين والترقيات العلمية التي نعرف أن كثيرا منها وهمي ومن أكاديمي مؤتمن على عقول الطلاب، نعم كثير من الأكاديميين ليس له من بحثه إلا اسمه على الغلاف وكثير منهم يفزع له زميله بادعاء مشاركته له في بحث لا يعرفه وكثير منهم ينشر بحوثا مشتراه من قبل جهات معروفة لا تكتفي بكتابة البحث بل تسعى إلى الحصول على تقرير يصدر من مجلة محكمة تدعي نشره في عدد سابق كذبا وتزويرا في مصر وغيرها ثم يقدم إلى الأقسام من أجل الترقية الوهمية فيفرز لنا هذا التزوير بروفسورات وهميين ومزورين في الأقسام العلمية في جامعاتنا الحكومية والأهلية.
إن هذا الخطر لا يقل عن خطورة الشهادات الوهمية وربما الذي جرأهم على ذلك أن المعيار في الترقيات هو ما قدم مكتوبا للقسم العلمي دون مناقشة له في أبحاثه ودون تأكد من موضوعية التحكيم وصدق المجلة المحكمة ولذلك لم نسمع في يوم من الأيام عن استغناء قسم علمي أو جامعة أو مؤسسة أكاديمية عن عضو هيئة تدريس لأنه لم يطور قدراته العلمية والتدريسية أو بسبب اكتشاف سرقته ولو كانت بأثر رجعي ولو تم تطبيق معيار الجامعات الغربية في الترقيات وقبول الأعضاء في الانضمام للأقسام العلمية باعتمادها على الشهادات والتجربة والعلم والقدرة على التدريس لكان المستوى الأكاديمي عاليا ودقيقا وموضوعيا ولذلك في كل عام يتم الاستغناء في جامعات الغرب عن أعضاء لم يحققوا المأمول لمؤسستهم الأكاديمية وكل عام يضيفون لقوائم التدريس علماء لا يحملون شهادات عليا اكتفاء بما قدموه في تخصصهم من نظريات وأبحاث جادة وحصولهم على جوائز عالمية وبراءات اختراعات، فكفاهم ذلك المعيار الحقيقي من البحث خلف المزورين والدراسة في أكاديميات التزوير والجري وراء الترقيات الوهمية...
نعم، إن اختلاط العملة الأصيلة بالمزيفة سيفقد العملة كلها أصالتها ويجعل الناس يتهافتون على الرخيص فتفقد المؤسسات الأكاديمية الأصيلة ميزتها حتى تصبح شهاداتها في البقالات والدكاكين والأماكن القذرة التي تبيع الوهم وترعى التزييف وتتنازل مؤسسات علمية عن درجة قوتها من أجل البحث عن رضا السواد الأعظم الذي يبحث عن الوجاهة في العلم والشهادة في مجتمع خير ما تمثله هي صورة التنافس غير الشريف بين عائلتي أبي نمر (دريد لحام) وأبي نايف (رشيد عساف) في مسلسل خربة المملوء بالأفكار الوهمية التي تفسد أي مجتمع حينما حصل طفل من عائلة أبي نايف على ممتاز في الشهادة الابتدائية مما استدعى أبو نمر أن يستخدم نفوذه العائلي فزور شهادة لابن العائلة تؤكد تفوقه على عائلة أبي نايف ولكنه نسي فاكتشفت كذبته لأنه كتب في الشهادة منتاز (ممتاز) بلهجته القروية وختمها بختم المصرف الزراعي.. والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com