إذا كان الكتاب هو وعاء العلوم والمعارف فظهوره رهين اهتزاز الإنسان للعلم واحتفائه بالمعرفة ولكن ما أول كتاب وأين ولماذا وكيف؟
لا أظن التراتبية على هذه الصفة بل من خلال استقراء النصوص الواردة في رحلة الكتاب نجد أن البواكير كانت
إضافات ومحاولات ورصف ورقة على ورقة وضم مجلدة إلى مجلدة للحفاظ عليها أو جمع المعلومات أو غيرها من الاعتبارات فليس هناك أول وليس هناك مخترع بل إن الكتاب قام بولادة نفسه وهذا لا يستغرب عليه فهو الأستاذ والناس مازالوا تلاميذ.
لا نعني بذلك الكتاب بشكله المتداول اليوم فقد وقفنا على مخترع الطابعة والتطور المصاحب لها وسيأتي في ثنايا المقال وإنما نعني الرقوق واللفائف التي سبقت شكل الكتاب المعاصر وأدت وظيفته قبل خروجه.
كانت على شكل لفافات جلدية طويلة تخزن في العلية بعيداً عن الرطوبة ومتناول العابثين وبعضها ألواح صلصالية مستطيلة فالكتاب عبارة عن مجموعة ألواح توضع في صندوق فمن أراد القراءة سحب اللوح المعني وأعاده مكانه للحفاظ على التسلسل ومع ذلك لم يعثر على شيء من هذا الذي مر في الحفريات البحثية وإنما عرفت هذه التفاصيل عن طريق أشكال توجد على بعض القبور.
كانوا يضمنون هذه الكتب الشرائع والقوانين والنظم ويجعلونها كبيرة تحسب بالأمتار وتودع في المكان المناسب بعيداً عن الآفات وأما الرسائل والمكاتبات فهي ألواح صغيرة الحجم.
يقول آلبرتو مانغويل في سفره النفيس تاريخ القراءة: (كان حجم الكتاب محدداً بغض النظر عن رغبات القارئ فالصلصال كان ملائماً لصنع الألواح والبردي (المصنوع من الجذور المجففة لنبته حمراء اللون المقطعة على شكل شرائح) كان يستخدم لصنع الأدراج وكلاهما كان نسبياً قابلاً للنقل لكنهما لم يكونا يصلحان اصنع الكتاب الذي قدر له أن يحل محلهما..
كانت أدراج الرق ومخطوطات البردي نادرة لأنها لم تكن عملية ابتداء من القرن الرابع فصاعداً - لحين ظهور الورق في إيطاليا بعد ثمانمئة عام - كان الرق في أروبا هو المادة المفضلة في صناعة الكتب ولم تكن هذه المادة أقوى وأملس من البردي بل إنها كانت أرخص سعراً نظراً للمبالغ الطائلة التي كان يتطلبها استيراد البردي من مصر بسبب الحظر الذي فرضه بطليمس على تصديره.
وسرعان ما أصبحت المخطوطات المصنوعة من الرق هي شكل الكتاب المتعرف عليه حيث كان يستعملها الموظفون والقساوسة والمسافرون والطلبة - أي أولئك الذين كانوا يضطرون إلى نقل مواد القراءة براحة من مكان إلى آخر.....
استمرت مسيرة نجاح المخطوطات مع حلول القرن الرابع بعد الميلاد كانت الأدراج الكلاسيكية قد ولى عهدها وانتهت تقريباً وحل محلها الرق مادة لصنع الكتب..
في القرن السادس عشر تم رسمياً تثبيت قياسات الصفحات المطوية، حدد الملك فرانتس الأول في عام 1527 الحجم القياسي للورق في فرنسا ومن كان يخالف هذا النمط كان يعاقب بالحبس..
في منتصف القرن الخامس عشر حدث تطور جديد لم يقلل من تكاليف العمل وإنما أدى إلى تزايد درامي في إنتاج الكتب وغيّر إلى الأبد علاقة القارئ بكتابه الذي لم يعد كالسابق نسخة فريدة مختارة مكتوبة بخط اليد هذا التطور كان كما هو معروف اختراع الطباعة بالأحرف المتحركة.
وفي نحو عام 1440 اكتشف شاب كان يعمل في حفر النحاس وصقل الأحجار الكريمة من أسقفية ماينتس اسمه الكامل يوهانس غنزفلايش تسر لادن تسوم غوتنبرغ (عرفه العالم فيما بعد تحت اسم يوهان غوتنبرغ) اكتشف أن المرء يستطيع تحقيق الكثير من السرعة والكفاءة في الطباعة إذا تم قطع الأحرف الأبجدية على شكل أحرف قابلة للتحرك ولإعادة الاستخدام بدل الكتل الخشبية المحفورة المستعملة في طبع الرسومات) (1).
كرر يوهان غوتنبرغ تجاربه مرات عديدة فطبع إنجيلاً من حبر أسود مأخوذاً من الزيت فنقشه بين مكبس النبيذ وتجليد الكتب، إذا عرفنا أن إنجيلاً كهذا بلا طابعة وبلا رقوق يحتاج إلى سلخ مئتي شاه عرفنا ماذا قدم يوهان غوتنبرغ لقد تنادى الناس حينها بقرب يوم القيامة وزوال العالم وعلى كل حال نفدت مطبوعات الإنجيل بشكل سريع وتهافت عليها المهتمون بل وبيعت وهي ما تزال تحت مكبس النبيذ ولا يخفى على القارئ الكريم أن هذه شرارة الإبداع وانفجار التخليق مما يستدعي في الذهن مشاهد بانورامية لتطور الآلات الطباعية وانتشار المطابع وكثرة تداول الكتب بل وتزايد عدد القراء إلى يومنا هذا.
بدأت المدن الأوربية ترفع مكابس الطبع في ايطاليا 1465م وفرنسا 1470م وإسبانيا 1472م وهولندا وانجلترا 1475م والدنمرك 1489م فطبع خلال القرن الخامس عشر ما لا ينقص عن 250 نسخة ولا يزيد على 1000 نسخة.
لم يكن الأوربي يظن أن بإمكانه اصطحاب الكتاب ذلك الكهل الضخم المتكئ على أخشاب الكنائس العتيقة ومع هذا الفتح تطور الحال إلى كتاب الجيب الخفيف والذي وصفه شكسبير في حكاية الشتاء بـ (للرجل والمرأة من الحجوم كافة) وحتى المجلدات ذات الجلد الغالي بدأت تتحول إلى الكتان والذي يحاكي المجلد لينتقل من الأرستقراطية لبيوت الطبقة الوسطى والذي زينت به الصوالين لمناسبته لبقية الأثاث والرياش.
وفي الشرق الأقصى حيث السحر والحكمة والديانات الغامضة والإقطاع والتوتر السياسي والديني وغيره تتفق أقوال العلماء الصينيين على أن الطباعة بالقالب قد ظهرت في عصر مملكة تانغ (tang 618 - 907م) ولكن العلماء خلال الثلاث مئة عام لهذه المملكة اختصموا حول البداية بل بعضهم ذهب إلى أن ذلك كان في عهد مملكة سوي SUI ولغيرهم أقوال والذي يهمنا أن هذه التواريخ تسبق بخمسمئة عام ظهور الطباعة في أروبا فما معنى هذا الكلام؟
هل استفاد يوهان غوتنبرغ من الصينيين وهل سمع عنهم وقوالبهم وهل كانت تلك القوالب تطبع الكتب لا لم تكن كذلك وإنما كانت تطبع الكلمات الصينية المربعة الشكل على لفائف يصل طولها للأمتار وأما الكتاب بشكله المجلد لم يعرف إلا في حقبة مقاربة لظهوره في أروبا.
إذن من أخذ عن الآخر؟!
وهذا مما يدلنا على أهمية مثل هذه الأعمال البحثية فتاريخ الأفكار رهين بتاريخ وسائل إيصالها فنقف على أن العالم كان بمثابة الجزر المعزول بعضها عن بعض والتي تتكرر فيها التجارب والمحاولات الإنسانية بقدر المشترك الإنساني والتقارب العقلي بين هذه الأمة أو تلك ارتقاءً وانحطاطاً ليجيء الكتاب كرسول المعرفة ومبعوث التلاقح فيتغير وجه العالم في تاريخه الأوسط.
وهذا أيضاً مما يضع أيدينا على أول الخيط في رحلة الكتاب لنتلمس آخره مع مزاحمة الكتاب الالكتروني.
واللافت للانتباه أن الأوربيين بدؤوا بطباعة الإنجيل بكابسة نبيذ والصينيون بدؤوا بكتب الكهنوت والأحلام والمعجزات وهذا يبين مدى قيام الحضارات على المدونات الدينية الأولى وأن الثقافة تصبغ أول ما تصبغ بصبغة الدين وتلون بأطياف الرأي الجنسي والمعتقدات الراسخة والتي يحتاجها الناس أشد الاحتياج وبغض النظر عن صدقها كما يقول لوبون فهي الدعامة الكبرى لتماسك الأقاليم الإنسية والمجتمعات البشرية والرافعة الكبرى لآمالهم وطموحاتهم والصدى العميق لأرواحهم الفقيرة لما تعتقده بحق أو بباطل.
t-alsh3@hotmail.comTALSH3 # تويتر