في الأسبوع قبل الماضي كانت مقالتي في هذه الصحيفة الغَرَّاء عن المُخَادعين والمُنخدِعين مُركَّزة على ما يجري في سوريا المنكوبة. ومع أن هذا أكبر مصائب أُمَّتنا في هذه الأيام فإني أرى أن هناك قضايا أخرى مُلحَّة. ومن هذه القضايا ما يحدث في كُلٍّ من مصر والعراق.
لقد تفاءل كثير من أبناء العرب وبناتها بزوال الحكم الذي كان قائماً في مصر على الفساد المالي الذي كاد يكون منقطع النظير، والذي أفقد ذلك الوطن العظيم حضارة وواقع إمكانيات لِلتقدُّم لو استُغِلت الاستغلال الصحيح.. أفقده هيبته ومكانته إقليميًّا ودوليًّا. لقد بلغ بقيادته تَقبُّل الذل من أعداء أُمَّتنا إلى درجة أن تأخذ بالأحضان مجرم حرب صهيوني؛ مثل اليعازر الذي كان قد أمر أن تَمرَّ مجنزرات جيشه، عام 1967م، على أجساد أفراد الجيش المصري بعد أمرهم أن ينبطحوا على الأرض حتى مَزَّقتهم تلك المنجزرات إرباً. بل إن مجرمة الحرب الصهيونية وزيرة خارجية الصهاينة، ليفني، أعلنت من مكتب الرئيس المصري؛ وهو إلى جانبها، أن كيانها سيهاجم غزة وهاجمها فعلاً ولم يكن رد فعل ذلك الرئيس الذليل تجاه ذلك الإعلان الوقح إلا التَّحلِّي بالصمت. ذلك أنه كان زعيماً:
عند المُحتلِّ له نَفَسٌ
أطيب من رائحة العَنْبَرْ
وحَديثٌ سبك عبارته
أَحلى في الطعم من السكَّر
وعلى مَحكومٍ مُضطهَدٍ
أمضى في السطوة من عنتر
أجل. لقد تفاءل كثير من أبناء أُمَّتنا وبناتها بزوال ذلك الحكم، وفرح الكثيرون بأن رأس ذلك النظام أدرك الواقع، فَتنحَّى عن الحكم، وأصبحت الخسائر بذلك التَّنحِّي أَقلَّ مما لو كابر كما كابر زعماء عرب آخرون. وتمهَّدت الطريق أمام من يطمحون إلى الحكم. ومن المعروف أن هناك تيارات فكرية سياسية مختلفة. وفي ظني أن التيَّار الديني الإسلامي استعجل قطف الثمار قبل نضجها النضج الكافي. وتَسرَّع في الإقدام على جثة تحتاج إلى سنوات كي يَتطهرَّ العفن الذي أحدثته. ولو لم يَتسرَّع ذلك التيار وفي طليعته جماعة الإخوان المسلمين للوصول إلى الحكم لكان في التريُّث المصلحة له بصورة عامة. على أنه حدث ما حدث وبعض الأخطاء مأساوية الأثر و”فات الفوت”. وعملت انتخابات لمجلس الشعب ولرئاسة مصر. ونجح التيَّار المشار إليه، وفشل زعماء سياسيون بينهم عمرو موسى كان الكثيرون يظنون أنهم يسعون إلى خدمة وطنهم وأُمَّتهم؛ في الوصول إلى كرسي الرئاسة. وتَبيَّن من مواقفهم بعد فشلهم أنهم لا يَقلُّون انتهازية عن كثير من محترفي السياسة من العرب. وإن العالم كُلَّه ليرى كيف يغامر هؤلاء الفاشلون بحاضر مصر ومستقبلها؛ أملاً في الوصول إلى الجثة التي خلفها العهد السابق لينهشوا من عفنها ما ينهشون.
أما في العراق فالحال أسوأ. كانت العراق ركناً من أركان قوة العرب؛ سياسيًّا، وهُويَّة عربية، ومكانة اقتصادية. لكنها ابتليت بشخصيات تَتَّصف بكل ما تَتَّصف به الشخصيات الخائنة لوطنها من صفات. ومن تلك الشخصيات الجلبي، المختلس المطارد قانونيًّا من الأردن، الذي خان وطنه، فكذب عليه وادَّعى أنه يمتلك أسلحة دمار شامل. ومع يقيني بأن العدوان الأمريكي المُتمثِّل باحتلال العراق كان مخطَّطاً له على أَيِّ حال؛ بل كان مُوصًى به من جماعة بينهم تشيني حتى من قبل الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، فإن ادِّعاء الجلبي الكاذب استُخِدم تضليلاً للرأي العام الغربي لارتكاب ذلك الاحتلال العدواني. لقد كانت قيادة وطننا.. المملكة العربية السعودية.. من بين الدول التي حَذَّرت من عواقب ذلك الاحتلال على المنطقة كلها مع تمنِّيها أن يزول حكم صدام حسين بأيدي أبناء الشعب العراقي لا بأيدي الآخرين. لكن المتصهينين من قادة أمريكا لم يلقوا بالاً لأَيِّ تحذير وإن جاء من صديق لهم. ذلك أنهم يرون في احتلال العراق وتحطيم قوته خدمة للكيان الصهيوني؛ وذلك ما صَرَّح به رئيس أركان الجيش الأمريكي نفسه.
كان من نتائج الاحتلال الأمريكي العدواني للعراق وتحطيم قوته نهب آثار مُهمَّة من آثاره، ونهب لجزء من ثروته كان جزء منه قُدِّر بأربعة مليارات دولار ذهب إلى إبراهيم بحر العلوم، الذي وُلِّي وزارة النفط في العراق المحتل. على أن الأفظع من ذلك كُلِّه أن المُحتلَّ رسَّخ الطائفية والعرقية في تلك البلاد بحيث أصبح من الصعب أن تعود العراق كما كانت ركناً من أركان قوة أُمَّتنا؛ عربية الهُويَّة إسلامية المسيرة. لقد وُضِع دستور للعراق صاغ مواده الصهيوني العراقي بيتر نوح مان، الذي يعيش في أمريكا، وأصدره المتصهين بريمر، حاكم العراق المشهور بسوء السيرة. وكان النتيجة النهائية لكل ذلك أن:
سُلِّمت بَغدادُ في طَبَقٍ
لِعُلوجِ الحِقْدِ من ذهبِ
وتَلظَّى في مرابعها
مُستطيرُ الرُّعب من لَهبِ
وجَنَتْ صهيونُ ما حلمتْ
فيه من مُستَعذَبِ الأَربِ
ومن الغريب أن يخفى على بعض الكتاب ما يوجد من تنسيق وتعاون بين القيادة الأمريكية المتصهينة والقيادة الإيرانية المتعصبة لفارسيتها والمُتَّصفة بالدهاء والمكر. ولَعلَّ من الأدلَّة على ذلك ما قاله بريمر ذات مَرَّة للجعفري حين كان رئيساً لوزراء العراق المحتلة: يجب عليكم أيها الشيعة أن تشكروا أمريكا لأنها أوصلتكم إلى حكم العراق؛ وهو أمر طالما تَمنَّيتموه طوال قرون. على أن عرب العراق؛ سنةً أكثرية وإخوانهم المؤمنين بعروبة وطنهم من الشيعة لم يعودوا يحتملون ما حُلِّ بوطنهم من استبداد حكم تسيره القيادة الإيرانية بمباركة من القيادة الأمريكية، فبدأوا انتفاضتهم منذ أكثر من شهر. وثمن التَّحرُّر من الهيمنة الإيرانية المباركة أمريكيًّا لن يكون قليلاً، لكن الصبر والتصميم لهما ما لهما من قوة.
وبقيت سوريا المنكوبة التي تجري فيها كبرى مصائب أُمَّتنا العربية هذه الأيام بالذات. لقد تَحدَّثت بشيء من التفصيل عن ذلك في مقالة الأسبوع قبل الماضي، التي أشرت إليها في مستهل هذه المقالة. وكان مما أشرت إليه في تلك المقالة مواقف عدد من الدول العربية المساندة للنظام السوري المُتوحِّش، وموقف الإدارة الأمريكية، الذي بدأ مخادعاً عندما اندلعت هَبَّة أكثرية الشعب السوري ضد النظام المجرم الذي يَتحكَّم به منذ أكثر من أربعين عاماً. لقد أعلنت الإدارة الأمريكية عند اندلاع تلك الهَبَّة أن النظام السوري فقد شرعيته، وانخدع من انخدعوا بذلك الإعلان، فطالبوا بتسليح المدافعين عن مواطنيهم المسالمين، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن إسرائيل لا ترى مصلحة في زوال النظام السوري، وما دام الأمر كذلك فإن أمريكا لا يمكن أن تقدم على ما هو في غير مصلحة الكيان الصهيوني.
ما الذي يُطبَخ الآن من قِبَل القوى ذات التأثير في مجرى الأحداث في العالم لتمرير حلول في طليعة سماسرة المُروِّجين لها الأخضر الإبراهيمي، الذي برهن على أنه بعيد كُلِّ البعد عن النبل الذي اتَّصف به ابن بلده الحقوقي أنور مالك، الذي كان ضمن فريق المراقبين الذين أرسلتهم الجامعة العربية إلى سوريا، فغادر سوريا محتجاً على موقف الجامعة المُدلِّس، وكشف انتهاكات النظام لحقوق الإنسان، وبَيَّن جرائمه مُوثَّقة. الأخضر الإبراهيمي لم يشر مَرَّة واحدة إلى ارتكاب ذلك النظام جرائمه قبل أن يضطر المدافعون عن المسالمين إلى استعمال السلاح في دفاعهم مما يعني انحيازه الكامل إلى مرتكبي تلك الجرائم.
والآن وصل تدمير سوريا إلى ما وصل إليه، وبات أعوان الكيان الصهيوني من الأمريكيين وغيرهم من الأوروبيين يخشون أن يرتكب النظام السوري استعمال أسلحة دمار شامل لا يقتصر أذاها على الشعب السوري؛ بل قد ينال شيء منه مهما كان قليلاً الكيان الصهيوني. فبدأ تَحرُّك محموم ظاهره أنه يسعى إلى فرض سلام في سوريا وباطنه حماية ذلك الكيان. ولَعلِّي أختم هذه المقالة بكلمات وردت في تعليق للكاتب مصطفى زين نُشِر في صحيفة الحياة قبل أمس عنوانه: “انشقاق الخطيب ومؤشرات الحل في سوريا”. أكد مسؤول أوروبي أن الوقت قد حان لإخراج سوريا من أزمتها؛ مُعلِّلاً ذلك بأن ما يريده الغرب وحلفاؤه تَحقَّق.. فمعظم ما هو مطلوب تَمَّ الآن بأيدي السوريين أنفسهم دون أن تضطر أوروبا أو أمريكا إلى بذل أَيِّ حهد يُذكر. إن من المؤكد أن واشنطن اكتفت بهذا القدر من إضعاف سوريا وشَلِّها عن التأثير في محيطها.
على أن كاتب هذه السطور يرى أن ما يُحقِّقه الثوار السوريون ضد النظام المجرم على الأرض السورية من بوادر نجاح هو -بإذن الله- الذي سيكون مفتاح النصر ضد الجور وضد المتواطئين على أُمَّتنا من الغرب أو الشرق، أو من المتخاذلين من السوريين وقد فاحت رائحة أحدهم؛ وهو معاذ الخطيب، الذي صَرَّح بقبول التفاوض مع ذلك النظام؛ وهو أمر كانت المعارضة ترفضه. وإن كُلَّ ما يَفتُّ في عضد المقاومة السورية الحقيقية على الأرض عمل مدان غير مقبول.