أعرف أنه سؤال غريب لكن أجبني! هل سيخلط عقلك بينهما؟ لا. لو سألك شخص في تلك اللحظة «كيف شكل النعامة؟» فلن تَدخل تفاصيل البطريق إلى الوصف لأنه فقط في ذهنك بينما النعامة تراها حقيقة أمامك، لهذا سيكون جوابك: «ساقان طويلتان، عنق ممتدة، الخ»، وتكمل وصفك بدقة.
هذه من نعم الله علينا التي لا ندركها. هذا يحدث لأنه من الناحية البصرية فإن العقل يجعل الأفضلية للواقع وليس للخيال، فإذا حصل تعارض بينهما فإن المخ يتجاهل المخيلة ويأخذ الواقع، لهذا لا تقلق لو كنت مسرعاً بسيارتك عند إشارة خضراء وتخيلتَ أن الإشارة حمراء، فلن يشوش هذا على مخك، بل سيرى الأخضر. هذا من الناحية البصرية لكن من ناحية المشاعر فإن الأمر يختلف تماماً. العقل يخلط بين المشاعر المتخيلة والمشاعر الحقيقية. لو سألتك: «ماذا لو أتاك شخص ولطمك بلا سبب؟»، وجعلتك تتخيل هذا الموقف وتعيشه فإنك ستشعر بالغضب. ستزداد ضربات قلبك ويرتفع ضغط دمك، على الرغم من أن الموقف لم يحصل. هذا أمر أُجرِيت عليه تجارب كثيرة أثبتت صحته، من ذلك أن باحثين ذهبوا لنادٍ رياضي وطلبوا من فريقين من الناس أن يتخيلوا أنهم تائهون في الصحراء وأن يتخيلوا أي شعور هو الأسوأ الجوع أم العطش، فأما الفريق الأول فكانوا عطاشاً لأنهم انتهوا من تمارينهم، وأما الفريق الثاني فلم يبدأوا رياضتهم، وكانت النتائج أن العطاش قالوا إن العطش في الصحراء سيكون أسوأ من الجوع، والفريق الآخر لم يُجب بهذه الإجابة إلا عدد أقل بكثير من الفريق الأول، وهذا يعطينا بعض الإشارات لما يعانيه المصابون بمرض الاكتئاب، فيصعب عليهم التفاؤل لأنهم في مزاج سيئ مستمر وعندما يتخيلون المستقبل لا يبدو إلا مظلماً لأنهم ينظرون له من خلال حالتهم النفسية تلك اللحظة، على الرغم من أن هذا ليس مقياساً صحيحاً للمستقبل لكن هذا يعمل العقل، فهو ينظر للخيال (ومن ذلك المستقبل) من خلال الواقع.
الأمثلة من الحياة كثيرة وهي تُظهِر قصور العقل البشري من هذه الناحية، وذكرني هذا بحديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أن أقل أهل الجنة منزلة هو من يسمح الله له أن يتمنى ما شاء فيتمنى حتى يرضى، وأما أفضل أهل الجنة منزلة فهم الذين قال الله عنهم إنه أعد لهم ما لا خطر على قلب بشر، أي حتى لو تخيل هذا الشخص أعظم أنواع النعيم فلن يصل لذلك، فالخيال البشري أساسه الواقع ولهذا هو محدود جداً، ومن يقرأ عن تخيلات الأقدمين لحياتنا اليوم فسيرى أنهم أدخلوا واقعهم فيه ونظروا للمستقبل من وحي حاضرهم وهم لا يشعرون، وهناك كاريكاتير طريف يعبر عن هذه الفكرة، وهي أن أحداً ذهب لاسفنجة من الاسفنج الطبيعي الذي يعيش في الماء وقال لها: تمنَّي، وقالت الاسفنجة: أتمنّى أي شيء؟ قال: نعم، ما أقصى أمانيك؟ فهتفت بحماس: أريد أن أكون سرطاناً! وهذه تُعبّر عن البشر تماماً، فالاسفنجة الطبيعية كائن حي بسيط لا يوجد لديه أجهزة هضمية ولا عصبية ولا دموية وتعتمد على الماء الذي يمر في خلاياها ليقوم مقام تلك الأجهزة، فلما أتتها فرصة أن تتمنى تمنت أن تكون حيوان سرطان البحر، فهو كائن أكثر تعقيداً منها ويتحرك ويأكل ويفعل ما يريد، فمثل البشر كانت أقصى أمنية للاسفنجة هي شيء محدود بواقعها!