جاء في الأخبار؛ أن فصائل الإرهابيين المتلبسين بالإسلام؛ ارتكبوا مجزرة تاريخية ضد مكتبة علمية في مدينة (تومبكتو) المالية. الإرهابيون أحرقوا -على ما يبدو- كنوز هذه المكتبة المكونة من (30 ألف مخطوط عربي)، يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وهي مسجلة
عالمياً. وتشتهر هذه المدينة في جنوبي الصحراء الإفريقية، بأنها عاصمة للعلم والأدب والثقافة، وأن بها (مليون مخطوط)، موزعة على عدة مكتبات علمية بالمدينة، وهي كتب عربية؛ دينية وتاريخية وشعرية وأدبية، معظمها من كتب الأندلسيين الفارين بعد الهزيمة هناك، الذين عبروا مضيق جبل طارق عائدين إلى بلاد المغرب، في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، حيث تحولت مالي بعد ذلك؛ إلى مملكة إسلامية كبيرة، ومدينتها (تمبكتو)؛ إلى عاصمة للعلم والتدريس لعدد من القرون، ومما يثير العجب، أن مالي دخلت في الاستعمار الفرنسي خمسة عقود تقريباً.. (1898م - 1946م)، لكن المستعمرين أبقوا على تراثها وكتبها ومخطوطاتها ومآثرها العربية، بل حافظوا عليها ولم يمسوها بسوء، حتى جاء (الهولاكيون الجدد)، بهمجيتهم وتطرفهم وجهلهم، ليحرقوا نسخ القرآن المخطوطة، وكتب العلماء المسلمين على مر تاريخهم المجيد في الأندلس وفي شمالي إفريقيا، ليعبروا بذلك عن فكرهم (الظلامي)، الذي هو صبغة لحياتهم وسلوكهم في هذا العصر.
قبل ما يقرب من ثلاث عشرة سنة؛ شنت فصائل طالبان في أفغانستان؛ حملة عسكرية ضخمة على آثار مدينة باميان الأفغانية، فدمرتها، وسط تذمر كافة عقلاء العالم من عرب وعجم، وهي آثار مسجلة ضمن التراث العالمي، وحظيت برعاية الدول الإسلامية المتعاقبة طوال ثلاثة عشر قرناً.
إن استهداف الحضارة الإنسانية بكامل مكوناتها الآثارية والعلمية والعمرانية وغيرها؛ جريمة كبرى دون شك، والعرب والمسلمون الذين كانت لهم دول وممالك في القارات الثلاث: (آسيا وإفريقيا وأوربا)، كانوا أكثر الناس احتراماً للمعالم الحضارية البشرية في البلدان التي حكموها، فلم يعرف عنهم أنهم حرّقوا الكتب، ولا هدموا دور العبادة، ولا دمروا الآثار، ولكنهم زادوا فبنوا فوق الذي كان قبلهم، فهل المدعون في هذا الزمان، من (ذيول طالبان)، و(فصائل خاربان)، هم أعلم وأعرف ممن سبقهم علماً ومعرفة..؟!
العالم كله يتذكر جريمة اجتياح المغول بقيادة (هولاكو) لبغداد سنة (656هـ)، والعرب يندبون منذ سقوط الدولة العباسية، ذلك اليوم المشؤوم؛ الذي ألقى فيه التتار أمّهات التراث العربي، أمام أعينهم، في نهر دجلة.
تكلف إنشاء مكتبة (بيت الحكمة) في بغداد مائتَي ألف دينار. (نحو 950000 دولار أميركي)، وأقام فيها مؤسّسها (هارون الرشيد) وابنه المأمون؛ طائفة من المترجمين، وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال. وقد وصف (ول ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) مكتبة (بيت الحكمة) فقال إنها: (مجمع علمي، ومرصد فلكي، ومكتبة عامة).
إن دور بيت الحكمة لم يتوقف على اقتناء الكتب وحركة الترجمة والمناظرات والندوات، وإنما تعدّى ذلك إلى رصد الأجرام السماوية، وتسجيل نتائج تلك الأرصاد، إلى أن دُمِّرت على أيدي المغول عند اجتياحهم بغداد، حيث قاموا بإلقاء جميع محتوياتها في نهر دجلة، إلى أن تحول ماء النهر إلى اللون الأسود من مداد الكتب. كما دمَّر المغول بالإضافة إلى مكتبة (بيت الحكمة)؛ ست وثلاثين مكتبة عامة أخرى في بغداد.
هكذا يفعل الجهل، وتصنع الحماقة، فعلى مر التاريخ، شهد العالم حروباً عدائية موجهة ضد الكتب بصفتها مصادر للمعرفة الإنسانية، وضد العلم والعلماء، فأحرقت مكتبات، ودمرت آثار، وشوهت مآثر، وإذا كان هذا ليس وقفاً على العرب والمسلمين، إلا أنه عار عليهم إذا أتى من قبلهم، كونهم أمة علم ومعرفة ودين سمح يدعو للعلم والمعرفة.
على سبيل المثال: أُحرقت مكتبة الإسكندرية، كما يذكر طائفة من المؤرّخين، على يد إمبراطور روماني، في حين يذهب آخرون إلى أنها أُحرقت على يد الجيوش الإسلامية الفاتحة بقيادة عمرو بن العاص.
وأحرقت مكتبة بني عمار، التي أُنشئت في القرن العاشر الميلادي. أُحرقت عند احتلال طرابلس أثناء الحملة الصليبية على سوريا، حيث أمر (الكونت برترام سنت جيل) -وكان قسّاً- بإحراق المكتبة التي كانت تحتوي على (ثلاثة ملايين كتاب)، وكان فيها أكثر من مائة وثمانين ناسخاً يتناوبون العمل بالمكتبة ليلاً ونهاراً، وفق تقدير (شو شتري) في كتابه: (مختصر الثقافة الإسلامية).
وأحرقت مكتبة (سابور) في بغداد؛ عند مجيء الملك (طغرل بك) سنة 450هـ، وهي تنسب إلى مؤسسها (أبي نصير سابور بن أردشير)، وزير بهاء الدولة البويهي، أسسها عام 381هـ. وتذكر المصادر التاريخية أن عدد الكتب التي احتوتها المكتبة بلغ زهاء (10400 كتاباً)، وكان من بين المتردِّدين عليها: (أبو العلاء المعرّي)، الذي ذكرها في (سقط الزند) قائلاً:
أخازن دار العلم كم من تنوفة
أتت دوننا فيها العوازف واللغط
فقد استمرّت المكتبة تقدّم خدماتها للجميع طوال سبعين عاماً، وكانت محلّتها بين السورين، كما جاء ذلك في كتاب البداية والنهاية لابن كثير.
ولا يعرف أحد على وجه الدقة، من الذي أحرق، بصورة متعمدة، مكتبة الكونغرس بالولايات المتحدة الأميركية سنة (1814م)، وقيل إنها كانت تحوي ثُلث الكتب التي كانت تحويها مكتبة بني عمار، أو مكتبة قرطبة، التي بلغ عدد الكتب فيها: (أربعمائة ألف كتاب)، إضافة إلى دواوين الشعر التي غطت (ثمانيمائة صفحة) من فهرست المكتبة.
إن في كل عصر من العصور (هولاكيين) أو (هوالكة)، لا يتورعون عن ارتكاب جرائم ضد العلم والمعرفة والتراث والآثار والحضارة الإنسانية بصفة عامة، فهولاكو الذي أحرق هو وجيوشه مكتبات بغداد، له أتباع و(هولاكيون جدد)، يظهرون بين زمن وآخر؛ ليجددوا العهد المقيت، للجهل، والحمق، والصفاقة.
H.salmi@al-jazirah.com.saalsalmih@ymail.com