كنت قد كتبت في مقال سابق عن “الفضاء العام” وهو النظرية التي وضعها الفيلسوف الألماني يورجن هيبرماس، ويقصد فيها بالفضاء العام المساحة التي تقع بين “العام” الذي تُمثّله المؤسسات الاجتماعية وبين “الخاص” الذي يُمثّله الفرد أو الأسرة.. وفي هذه المساحة ينشأ الخطاب العام public discourse
وكذلك يتشكَّل الرأي العام.. ويتقاطع العام والخاص عند بعض القضايا، ولكنه قد لا يتقاطع في قضايا أخرى.. فكلما كانت القضايا محورية وذات أهمية وتصب في الشأن العام، أصبح هذا التقاطع أساسياً بين العام الذي يُمثّله المركز السياسي (حكومة، برلمانات، قضاء) وبين الخاص - الهامشي أحياناً - كما تعكسه مؤسسات المجتمع المدني وبعض المنظمات في المجتمع إضافة إلى الأفراد.. بينما القضايا الروتينية قد لا تستدعي إعطاءها مساحات في الفضاء العام، فينوب المركز السياسي عن باقي مؤسسات المجتمع والأفراد في اتخاذ قرارات اعتيادية ليست ذات شأن مهم في المجتمع.
وما يستدعي العودة إلى الرؤية الفلسفية لهيبرماس هو ما نلاحظه ونشاهده في الفضاء العام السعودي والخليجي والعربي من قضايا يتقاطع فيها العام مع الخاص، والمحور الاجتماعي مع الهامش الاجتماعي، وهذا التقاطع هو الذي يُشكّل قضايا رأي عام في المجتمع.. وعادة كما يُشير إلى ذلك هيبرماس: تتطلب بعض قضايا المجتمع جدلاً سياسياً أو اجتماعياً يتشارك فيه ويتداخل العام والخاص، بما يُؤدي تشكيل رأي عام في المجتمع نحو تلك القضية أو ذلك الموضوع.. وفي خضم هذا الجدل يصبح معيار الشرعية في القضايا هو المنطق والعقل والتبرير وليس تدرجات أو ظلال السلطة، فيتراخى دور السلطة أمام تنامي وتطور الجدل العام في موضوعات النقاش المجتمعي.. وهنا نختلف في هذا الجانب مع هيبرماس الذي يرى أن المنطق والعقل هو سيد المواقف في تداول قضايا الرأي العام إذا طبّقناها على واقع المجتمع السعودي والعربي، حيث هيبرماس يتحدث عن المجتمع الغربي، بينما هناك فارق بين بنية العقل العربي والغربي، فنحن نبتعد كثيراً عن المنطق والعقل ونغوص في العاطفة والمشاعر والنفسيات.. ولهذا فبناء موضوعات وقضايا الرأي العام تختلف في آليات بنائها بين المجتمعين العربي والغربي.. وتراخي دوار السلطة وارد في كلا المجتمعين، لأن السلطة في المجتمع الغربي هي كتلة كبيرة ومنظومة من السلطات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية وغيرها من السلطات ولكنها رغم حجمها وتعقيداتها تتراخى وتضعف أمام عنفوان الرأي العام، بينما مفهوم السلطة في المجتمع العربي يتراخى بدرجة أقل رغم أن مفهوم السلطة مختزل في السلطة السياسية فقط، كما يُمكن اختزالها أكثر في شخصيات محددة في النظام السياسي.
وكل يوم تقريباً تظهر في المجتمعات العربية قضايا رأي عام، واذا أخذنا المجتمع السعودي فنرى أن قضايا الرأي العام هي أكثر من غيرها من المجتمعات الأخرى، وكأن المجتمع كان مغلقاً، أو أن تعقيدات التركيبة المجتمعية ترشح هذه الكثرة من القضايا المجتمعية.. وإذا سالنا عدداً من السعوديين عن قضايا الرأي العام الحالية، فسنجد توافقاً كبيراً بين الأشخاص على نوع وطبيعة القضايا، وهذا يعكس قوة التأثير الذي تحدثه وسائل الإعلام باعتبارها الناقل المتفرد لقضايا الرأي العام، وبخاصة مع انفتاح المجتمع على وسائل الإعلام الجديد. ولربما نتفق على أن قضايا الشهادات المزورة والفساد الإداري والمالي والمنتخب السعودي وجامعة نورة وشاحنة الغاز بالرياض وتويتر ليس كوسيلة، ولكن كتأثير على الرأي العام وربما غيرها كلها قضايا رأي عام لمسنا الجدل والنقاش والاختلاف حولها، كما تُرشح بين الوقت والآخر قضايا صغيرة ولكنها تصبح قضايا رأي عام ومعظمها يكون منشؤها مقاطع فيديو أو حادثاً أو تصريحاً لمسؤول أو ربما مقالاً في صحيفة أو تغريدة في تويتر.
وهنا أود أن أُجري تمريناً ذهنياً على بعض هذه القضايا، وفق مفهوم ونظرية “الفضاء الاجتماعي” لهيبرماس مطبقاً معايير النظرية: المنزلة الاجتماعية، سلطة التفسير، والشمولية.
فالمنزلة الاجتماعية الموجودة لأشخاص ومؤسسات في المجتمع لم تعد ذات بال لدى جميع أو معظم المشاركين في القضية، فقد تلاشت حدود الرسميات والأدب والتقدير للمنزلة الاجتماعية، ولربما بدأ أشخاص يُشاركون في هذه القضايا بالتباري في من يتجاوز مثل هذه الخطوط ويرتفع بسقف النقاش إلى أعلى المستويات.. أما سلطة التفسير فحدِّث ولا حرج، فكل من أراد أن يفتي في الموضوع فله الحق سواء خطأ أو صواباً، ولا نقصد هنا إبداء الرأي الموضوعي ولكن نقصد أن أصحاب المصالح والأهواء هم أول من يقفز في المشاركة بتطويع القضية لخدمة هذه الأهواء والمصالح.. ولم تعد سلطة التفسير في المرجعيات المتخصصة، بل تجاوزتها إلى كل شخص له رأي، ويبدو هذا الرأي في العادة حاداً متطرفاً لا يقبل النقاش أو الجدل.. أما المعيار الثالث فهو الشمولية، وتعني عدم الاستثناء في إبداء الرأي، فالجميع سواسية في طرح الآراء ولن يتم استبعاد أفراد أو جماعات أو شرائح في المجتمع.. وللتوضيح، فالفرق بين سلطة التفسير والشمولية أن الشمولية تنادي بإتاحة الفرصة للجميع في إبداء الرأي، أما سلطة التفسير فيجب أن تبقى في أيدي السلطات ذات العلاقة بالموضوع للشرح والتفسير والتوضيح بمعلومات وحقائق عن القضية أو الموضوع.. وما نلاحظه في المشهد الاجتماعي السعودي هو أن سلطة التفسير أصبحت مباحة للجميع بغض النظر عن التخصص التنفيذي للقضية.. ومن هناك يستوجب على الجهات التنفيذية أن تُبادر في رفع الحقائق أمام الرأي العام بأسرع وقت وشفافية عالية حتى تفوِّت على أصحاب الأهواء فرص توظيف الأحداث لخدمة أهوائها ومصالحها، ولكن هذه الإدارات التنفيذية تتراخى أمام الرأي العام بعمد أو بدون عمد لظروف افتقار الرؤية الإعلامية المناسبة أو خوفاً من فتح الأبواب والنوافذ أمام الرأي العام “الفضاء العام” الجديد الذي لم يعد كما كان، فضاءً قابلاً للتأطير داخل أقواس السلطة التنفيذية.. فالمشهد العام أو ما أسماه هيبرماس الفضاء العام يبدو مشوشاً ويميل، بل يتجه إلى حالة من الفوضى غير المسبوقة ربما في أي مجتمع من المجتمعات المعاصرة، نظراً لتعقيدات التركيبة الاجتماعية والنفسية، ولتداخل أطراف خارجية هدفها التأثير على قضايا الرأي العام في المملكة.. وخطورة هذا المشهد باتت واضحة، حيث يُمكن أن تعمل على تهيئة المجتمع لتحولات نوعية لا تصب في مصلحة المجتمع أو غايات المواطن.
alkarni@ksu.edu.sa- المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود - رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال