ليست اللغة مجرد كلمات ذات معان متوازية، تتم ترجمتها مباشرة من لغة إلى أخرى، لكنها مصطلحات قد تحمل في جوفها أبعاداً ثقافية ومعرفية، تمتد إلى مئات السنين، وقد تكون أحياناً بمثابة العقل الباطن لما تؤمن به الشعوب تجاه الظواهر الطبيعية والتاريخية في حياتها العامة، وعلى سبيل المثال تُترجم كلمة “سياسة” العربية إلى “بوليتيك” في اللغات الأوروبية، برغم من الاختلاف الشاسع في المعاني الثقافية بينهما، فمصطلح “البوليتيك” جاء من مصادر يونانية قديمة، وتعني بمنتهى البساطة إدارة المدن والبلاد، بينما تحمل كلمة السياسة العربية معاني تحكي الآثار السلبية للسياسة في العقل العربي، وتصف مصطلاحاتها المتنوعة تلك العلاقة غير السوية بين صاحب السلطة والرعية، التي عادة ما تنتهي بالهلاك للعباد والمصالح في صورة مفاجئة.
عند تأصيل كلمة “سياسة”، يربط الفقيه اللغوي بين السياسي وسائس الخيل، وتعني فن التعامل مع الخيل من أجل تطويعها بصورة غير مباشرة لخدمة أهداف محددة، بينما لم يُستخدم هذا الفن عند التعامل مع الحيوانات الأخرى، والتي عادة ما يتم معاملتها من خلال فرض الأمر الواقع بالقوة، وإذا كانت الخيول تمثل وجاهة السلطة والشأن الرفيع في المجتمع، فإن الأغنام وبقية البهائم بمثابة الإشارة الرمزية للرعية، بينما يمثل سائس الخيل ذلك السياسي أو الوزير أو رجل الدين الذي يهمس في أذن صاحب السلطة، من أجل توجيهه أو نصيحته سرياً لخدمة مصالحه الخاصة، لكن حين يتعامل السياسي مع العامة لا يستخدم فن سائس الخيل، ولكن يعامل الرعية كالبهائم أي بالبلطجة والضرب والترهيب وحراستها في المراعي بالكلاب المدربة..
والمفردة العربية سياسة فعلها يسوس، وترتبط لغة واصطلاحاً بالوسواس، أو الشيطان الذي يهمس في أذن صاحبه بأسلوب هادئ وغير مسموع من الآخرين، ويهدف إلى ضلال المرء وانحرافه عن الطريق الصحيح، ولو كان غير ذلك لما اتخذ صفة الهمس غير المسموع، وقد تحدث الكوارث بسبب أسلوب الوسواس السياسي في اصطبلات السياسة العربية، وتدخل فيها المكائد بين النخب والطبقات الحاكمة، فالكل يوسوس في أذن السلطان من خلال ما يُطلق عليه بالنصيحة السرية، ويحاول توجيهه بطريقة غير مباشرة من أجل مصالحه الخاصة، ويفسر علم الطب النفسي هذه الظاهرة بأنها قد تعني حالة انفصام مرضية، وقد تحتاج إلى أسلوب الصعق الكهربائي من أجل إيقاف همس الوسواس في أذن صاحبه.
ومنهما أيضاً تأتي مفردة السوس، وهي العُثَّة التي تقع في الصوف والثياب والطعام، وقال الكسائي: ساس الطعامُ إِذا وقع فيه السُّوس، والسوس ميكروبات متناهية في الصغر، لكنها قد تهدم المباني الضخمة، وتتلف الزاد والأثاث، وهي خفية عن العين المجردة، تماماً مثل الوسواس الخناس الذي يهمس بصوت غير مسموع في أذن صاحبه، وقد يقنعه بهدوء في أن ينتحر أو يقتل نفسه في وضح النهار، وفي ظل غياب لأي أثر للجاني، كذلك يفعل سائس الخيل بحصانة، فأحيانا يوهمه بحسن تعامله أنه يستطيع خوض المعارك الشرسة، وقد يكون فيها مصرعه وهلاكه بسبب طاعته العمياء لهمس السائس، وأيضاً قد يلقى صاحب الشأن نهايته إذا جعل من الوسواس السياسي إحدى طرق تعامله مع رعيته، فقد يوحي له السائس بدسائس مسيسة ضد خصومه، وأن عليه أن يبطش برعيته، ثم يواجه مصيره بعد ذلك في مشاهد مأساوية.
أعجب كثيراً من هذا الاتصال اللغوي العميق بين سياسي وسائس وسواس والسوس، والذين عادة ما يؤدي حراكهم الخفي عن عيون وأذان الآخرين إلى الهلاك غير المرئي إما في البلاد أو صحة الإنسان أو في الأثاث أو البيوت أو الطعام، وأطالب بتطهير فنون إدارة الحكم من السياسة والوسواس والسوس ومترادفاتها المتعددة في اللغة العربية، والبحث عن كلمات أخرى، تعيد تعريف فن إدارة مصالح البلاد، وتقطع حبال الهمس السري وتطرد الوسواس وتكافح السوس من أجل أوطان أكثر شفافية وأمناً وصحة.