أين نحن اليوم من الأمس، إنّ هذا التطوُّر الهائل الملحوظ الذي فرض واقعه على كافة منحنيات الحياة، فيما يتعلّق في مجال التعليم العالي والنّقلة النوعية التي شهدتها المملكة في العشر سنوات الأخيرة، من حيث جودة مخرجات التعليم وبنفس الوقت جودة المدخلات التي تساهم في رسم السياسات التعليمية والبرامج التطويرية التعليمية، ومما لا شك فيه أنّ رؤية سيدي خادم الحرمين الشريفين في عداد أجيال متميّزة لمجتمع معرفي مبني على اقتصاد المعرفة، هي الرؤيا السليمة التي ليس فقط تبني الوطن بل أيضاً وبنفس الأهمية تحافظ على ما بناه السابقون، البناء أمر حيوي ومهم ولكن لا يقل أهمية عن المحافظة على الإنجازات التي تم تحقيقها.
وكي نكون أكثر موضوعية علينا أيضاً أن نعترف أنّ كل مسيرة لا بد وأن يكون لها أخطاء، قد تظهر على شكل معوّقات أو سلبيات أو حتى في بعض الأحيان مميّزات، لذلك إن آمنا بالفكرة اقتناعاً وليس إتباعاً، وقبلنا ضرورياتها، فعلينا أيضا أن نقبل بتصحيحها من فترة إلى أخرى، وهذا ما يسمّى بالعلم الحديث التغذية العكسية Feed back .
وحسب إحصائيات وزارة التعليم العالي، فإنّ البرنامج بدأ بابتعاث مجموعة من الطلاب والطالبات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم توسّعت دائرة الابتعاث لتشمل عدداً من الدول المتقدمة في تخصصات متنوّعة تلبي حاجة سوق العمل في المملكة العربية السعودية. وهذا هو مربط الفرس كما يقولون، لأنّ المدخلات التي نرغب بالحصول عليها من جراء الابتعاث الخارجي هي ما تلبي احتياجات السوق السعودي، دون إغفال أهمية العلوم الإنسانية التي تهتم بتطوير المجتمعات والمحافظة على تدفُّق التاريخ إلى المستقبل مروراً بالحاضر، فالعلوم المهنية على أهميتها إلاّ أنها لا يمكن لها أن تنجح دون العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية.
وبما أننا قبلنا واعترفنا بأهمية العلوم الإنسانية لبناء أية حضارة وبنفس الوقت المحافظة على تاريخ أية حضارة، فنحن إذاً وبطبيعة الحال نعترف بالظروف الإنسانية بمجملها التي قد يكون لها تأثير على بعض القرارات وبعض الأنظمة المعمول بها، وهذا حقيقة ما أرغب اليوم بإذن الله أن أطرحه من باب الحرص على نجاح برامجنا التعليمية لما فيه مصلحة مملكتنا الحبيبة، لكي نصل إلى المستوى الحقيقي الذي نستحقه ولنتماشى مع الحرص الكبير الذي يوليه سيدي خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله ورعاه - على بناء التنمية المستدامة للموارد البشرية في المملكة حين أطلق - رعاه الله ونصره - مبادرته باستحداث برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي؛ لدعم الجامعات السعودية، والقطاعين الحكومي والأهلي بالكفاءات المتميّزة من أبناء الوطن.
في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، وبالخصوصية التي تمتلكها هذه الجامعة، من حيث إعداد الكوادر البشرية من الإناث ليمارسن دورهن الطبيعي في بناء المجتمع والحضارة، ولأن النظرة في عهد سيدي خادم الحرمين الشريفين أبي متعب، أطال الله في عمره، أصبحت واضحة أنّ دور المرأة في البناء دور مهم وحيوي، وليس تعليم المرأة من باب فقط استبدال الرجال بالنساء في مراحل التعليم، وإنما أيضاً من إيمانه - حفظه الله - بدورهن الأساسي في بناء الوطن وحمايته وإعداد الأجيال لمستقبله الزاهر، وهذا كله تماشياً مع شريعتنا السمحة، والاهتمام الذي توليه حكومتنا الرشيدة لجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن بتوجيهات سيدي خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - لأكبر دليل على ما شهدته المملكة من نقلة تطوُّرية فكرية في ضرورة وحتمية تعليم الإناث وإعدادهن الإعداد السليم ليأخذن دورهن الطبيعي في المجتمع السعودي.
إنّ برامج الابتعاث الخارجي التي توفرها جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن للطالبات، لإكمال دراساتهن في المراحل العليا سواء الماجستير أو الدكتوراه، من الأمور المهمة التي يجب العمل على دعمها وتعزيزها دائماً، وإدارة الجامعة ممثلة بمعالي الدكتورة مديرة الجامعة، وإن كان العمل الوطني هو واجب لا يستحق الإنسان عليه الشكر، إلاّ أنها تستحق منا كل دعم ومؤازرة وتشجيع، لكن هذا وكما أسلفت أعلاه لا يمنع أبداً من وجود بعض الملاحظات بين الفينة والأخرى، التي تحتاج منا تعديلها أو تصويبها لتحقيق أكبر مساحة ممكنة من النجاح، وقضية الابتعاث الخارجي للطالبات تحتاج إلى وقفة في مجال وفي نقطة محدّدة، ألا وهي حرية اختيار نوعية الابتعاث بناءً على ظروف معيّنة أهمها الظروف الإنسانية.
نعم سادتي الكرام، لا ننكر أنّ هناك بعضاً من العلوم المهنية كالطب والهندسة وغيرهما، تكون فكرة الابتعاث الخارجي فيها سواء للذكور أو الإناث أمراً مهماً جداً, لكن هناك بعضاً من العلوم غير المهنية كالعلوم الإنسانية، فإنّ جامعاتنا قادرة وبقوة وبحرفية على توفير مثل هذه البرامج خصوصاً للإناث، وبنفس الدرجة من الخصوصية للإناث اللواتي لا يرغبن في الابتعاث الخارجي، إما لرغبة شخصية أو لظروف إنسانية، وفي الحالتين لا يجوز حرمان أية طالبة من حقها في الابتعاث وزيادة تحصيلها العلمي بناءً على ظروفها الإنسانية أو الشخصية، لأنّ كما أكد سيدي خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله ورعاه - حق التعليم مكفول للجميع دون استثناء، فالطالبة التي تحصل على منحة بابتعاث خارجي لدراسة في علوم اجتماعية أو إنسانية كالأدب العربي أو علوم الاجتماع، ولديها ظروف خاصة تجبرها على البقاء داخل المملكة كرعايتها لوالديها أو أهلها أو أولادها، لا يمكن أن يتقبل العقل أن تسحب منها هذه البعثة فقط لأنها رفضت الابتعاث الخارجي وطلبت الابتعاث الداخلي، بل على العكس يجب الشد علي يديها وتذليل الصعاب لها، وتقديم كل مساعدة لتوازن بين واجباتها الإنسانية وبين واجبها الوطني تجاه بلدها بمزيد من العلم والتطوير.
الموضوع لا يحتاج إلى لجان ولا يحتاج إلى وضع خطط زمنية أو برامج طويلة الأمد لمعالجة مثل هكذا ملاحظات أو معقوّقات أو أخطاء قد تظهر من فترة إلى أخرى، الموضوع يحتاج فقط إلى قرار بمعالجته وفق آلية معيّنة ومرنة، فلا مانع من بعد خروج قوائم الابتعاث الداخلي والخارجي، من الطلب من المبتعثين المعترضين على نوعية الابتعاث خارجياً أم داخلياً من التقدم باعتراضات لتوضيح أسباب طلبهم بتغير مكان الابتعاث، ثم عمل مخالصة بين من يرغب في الابتعاث الخارجي وبين من يرغب في الابتعاث الداخلي، وبعد ذلك يتم دراسة كل طلب على حدة، والتأكد من الأسباب التي على أساسها طلبت الطالبة أن تغير جهة الابتعاث، وبالتالي تحل المشكلة وبسرعة وبسهولة أيضاً.
طالبة حصلت على ابتعاث خارجي لدراسة الأدب العربي أو علم النفس مثلاً، ولديها والدتها تعيلها وتخدمها، من حقها أن تطلب تغيير نوعية الابتعاث من الخارجي إلى الداخلي، خصوصاً ونحن نعلم أن هكذا نوعية من العلوم جامعاتنا الداخلية قادرة وبتميُّز على تأهيل طالبات الدراسات العليا، من حقها علينا أن نساعدها ولا نحرمها مستقبلاً زاهراً، ولا نحرم الأجيال القادمة من طالبة ترغب العلم ليكون لها دور في تطويرهم وتعليمهم.
هكذا واقع بسيط يجب معالجته من الآن وكما أسلفت ليس بالأمر المعقّد ولا الصعب، يحتاج إلى قرار فقط، علينا أن نبدأ بمعالجة أية معوقات تظهر في أية مسيرة وطنية نعمل عليها أولاً بأول، ويجب أن لا نؤجل الأزمات أو نتفه الأمور على بساطتها، فاليوم قد يكون لدينا عشر طالبات على مستوى المملكة حرمن من إكمال دراستهن لظروفهن الخاصة، لكن مع مرور الزمن سنجد أننا حرمنا مجتمعنا من قدرات عالية المستوى نتيجة لعدم تجاوبنا مع الظروف البسيطة في حينها.
أتمنى أن تصل كلماتي هذه إلى طاولة وزارة التعليم العالي، الطاولة التي يتم اتخاذ القرارات من عليها، الطاولة التي لديها القدرة على اتخاذ مثل هذه القرارات، مع علمي الأكيد بأنّ الرغبة في تطوير مستوى التعليم العالي في المملكة موجودة على هذه الطاولة وإنجازاتهم واضحة وضوح الشمس، وكما قلت لا يُشكر من قام بواجبه تجاه وطنه وأهله، لكن لا يمنع هذا أن ندعو له بالتوفيق وأن لا نبخل عليه بآرائنا واقتراحاتنا، فكلنا من اجل الوطن في خندق واحد.