لكل مجتمع شؤون تُمثِّل محاذير، يحرص أعضاؤه على صيانتها كجزء من الالتزام بالعقد الاجتماعي الذي يربط مكونات ذلك المجتمع، وكثير من هذه الشؤون تبلورت في صورة عادات وقيم وممارسات تكوَّنت على مَرِّ العصور كإفرازات لتجارب وأحداث مرَّ بها المجتمع، أو فُرضت عليه مقابل بقائه مترابطاً، وأصبحت تلك سمات للمجتمع يحرص أعضاؤه الحاليون على بقائها دون تغيير، وبغض النظر عما إذا كانت هذه السمات والعادات تُمثِّل عائقاً لتطور المجتمع، فهي محل خلاف مزمن بين أعضائه، فبعضها يحط من القيمة الاجتماعية لبعض أعضاء المجتمع أو ينتقص من حقوقهم أو يسفه معتقداتهم، وعلى مَرِّ العصور أصبح الحديث فيها محرجاً أو كلاماً لا يُقال.
إنَّ أهم تلك الأمور التي يحظر الكلام فيها لدينا تتمثَّل في ثلاثة أمور: أولها الاستعلاء القبلي، حيث يتفاضل بعض الناس على بعض، وهنا لا أرمي إلى «الانتقائية في النسب عند الزواج» فهي أدنى تجليات ذلك الاستعلاء ولكل حرية فيمن يستنسب لنسله، ولكني أهدف لذلك الاستعلاء الذي يتبلور في صورة نرجسية قبلية تجعل من صاحبها فاشي التصرف تجاه الآخرين، يعتقد بسيادة عنصرية، مبعثها الظن بسمو أصله عمن سواه، فيميل إلى سلب الآخرين حقوقهم في الاحترام والمجاملة، ويستبيح التّعدي عليهم بالكلام الجارح أو يتمادى إلى ما هو أكثر من ذلك، أما الأمر الثاني فهو الانكفاء المناطقي، حيث يبرز في صورة استخفاف بقدر الآخرين من المناطق الأخرى، وتعدٍ على حقوقهم في المساواة في الفرص في العمل والكسب والتصدي لما قد ينفع لهم، والأمر الثالث وأحسب أنه من أكبر المخاطر السكوت عنه وهو الخلاف المذهبي، والخلاف المذهبي فيما أرى، قائم منذ مئات السنين ومن العبث الظن بإمكانية حسمه لطرف بمجرد فرض رؤية الطرف الأقوى، لذا لا بد من التسليم بحقيقة الخلاف والتخلي عن جعل ذلك الخلاف ساحة صراع بين أتباع تلك المذاهب والعمل على تكوين مضمون جديد للنظر للتباين الطائفي يتمثَّل في الاتفاق على احترام حق الآخر في الاختلاف، ومن ثم من أراد أن يبين معتقداً أو يبحث في شأن لإقامة حجة على قول دون تجريح أو تسفيه لمعتقد الآخر، فذلك من باب إثراء العلم، ولا شك أن فيه مصالح مرسلة للأمة، والواجب أن يكون مكانه بيوت العلم والبحث في الجامعات والمراكز المتخصصة لا الساحات العامة والمجالس ومنابر المساجد، فالمتلقون في تلك الأماكن خليط ممن يغلب عليهم عدم الكفاية في البت في تلك الأمور، ويهتاجون بمجرد إلهاب مشاعرهم بذكر شواهد الخلافات الأمر الذي قد يُؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه.
إن محركي المجتمع، خصوصاً المؤثرين فيه من قادة وسياسيين وفقهاء ومثقفين مطالبون اليوم بتشجيع الحديث فيما بينهم عن المواضيع التي عهدناها محظورات، حتى نبرزها ونجلو عنها غبار السنين، ونتناولها من منطلقات جديدة ليست محكومة بالخطأ والصواب، ولكنها متسقة مع قيمنا السامية، فالاتفاق المفروض علينا الوصول له هو أن لنا جميعاً الحق في الاختلاف في المفاهيم والقناعات، ونتحد في الدفاع عن هذا الحق، وما عدا ذلك فالكل متاح له الحديث والشرح والتأصيل لفكره وعقيدته, علينا جميعاً أن نعمل على صياغة مفاهيم جديدة لكياننا الاجتماعي تقوم على أُسس التكافؤ والتعاضد والولاء لبعضنا بعضا، فبهذا نستطيع أن نكون أُمة صلبة، وعلينا تعلُّم الدروس من تجارب الآخرين حولنا، فمع شعورنا بالألم لِما يحدث بجوارنا من صراع محتدم حول بعض المجتمعات العربية إلى هلام لا لون له فكل ارتكس على قوميته أو طائفته، واحترب الجيران والأقارب، وذاقَ الجميع مرارة الخلاف المُختلف عليه.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail